ليه سورة الكوثر معجزة؟

ليه سورة الكوثر معجزة؟

ج / بسم الله.

ما يهمّني هنا هو أن تقتنع تمام الاقتناع أنّك لن تعرف لماذا سورة الكوثر معجزة وأنت تقرأ بيت جرير:

فغضّ الطرف إنك من نمير .. فلا كعبا بلغت ولا كلابا

ثم لا تعرف لماذا هذا البيت فضَح قبيلة نُمَير بأكملها وجعل أبناءها يخفون انتسابهم لها بعدما كانت من أعز قبائل العرب.

ذائقةٌ معينةٌ كانت عند جرير وعند النميريين وعند العرب كافّة بحيث صار هذا البيت فضيحة للقبيلة كلها لتلك الدرجة بينما أنت لا ترى منه إلا أنه يقول : “بص في الأرض إنت من قبيلة نمير اللي مش زي قبيلة كعب ولا كلاب”.

تلك الذائقة عندهم هي هي التي جعلتهم يعلمون تمام العلم ويتيقنون كل اليقين أن سورة الكوثر أعلى من المعلقات العشر، وأنه ليس في وسع بشرٍ أن يأتي بمثلها بحيث من نازع في ذلك افتضح بين العرب كافة كما افتضح مسيلمة الكذاب.

تلك الذائقة التي كانت عندهم كانت تجعل الحاذقين منهم يعرفون صاحب الكلام بمجرّد سماعه، فحين يسمعون كلامه فكأنما رأوا وجهه.

فهذا الفرزدق لما سمع أبياتا لذي الرمة وقد وضع بينها ثلاثة أبيات لجرير ونسبها لنفسه؛ ميّز تلك الأبيات الثلاثة عن باقي القصيدة، ثم أقسم لذي الرمة أن تلك الأبيات ليست له وإنما سرقها، وأنه لا يقولها إلا جرير.

نفسُ الذائقة اللغوية التي كانت عند الفرزدق فجعلته يميّز كلام جرير عن كلام ذي الرّمة كما تميّز أنت وجهَ أبيك عن وجه أمك؛ كانت عند عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فجعلته لمّا سمع: “طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” ؛ يجزم بأن هذا كلام الله ويميزه عن كلام البشر ويسلم لفوره.

وغيره لما سمع أول الطور أسلم، وثالث لما سمع فصّلت جزم بأنها كلام الله ورابع وخامس ومائة وعشرون ألف عربيٍّ في حجة الوداع سمعوا سورة الكوثر منسوبة لله تعالى فأقرّوا، وسمعوا في القرآن أن البشر كافّة عاجزون عن المجيء بمثلها فأقرّوا.

هكذا كان أصحاب الذائقة، وهؤلاء الذين نعتبر حكمهم حكمًا مهمًا ينبني عليه عمل.

أما أمثالنا من الذين لا ذائقة عندهم للتمييز بين طبقات الكلام بتلك الطريقة فلنا ثلاثة أمورٍ لا رابع لها:

1- الجزمُ بإعجاز القرآن للعرب بناءً على التاريخ الذي يثبت أنهم عجزوا بالفعل، فنقول: طالما عجزَ أعلم الناس باللغة = فهو مُعجز.

2- الوقوف على محاسن القرآن البلاغية بأنفسنا من خلال كلام العلماء -لاحظ، أقول محاسن القرآن البلاغية ولا أقول إعجازه- (بالمناسبة, استخرج الزمخشري رحمه الله في أحد كتبه خمسةً وعشرين وجهًا من محاسن البلاغة في سورة الكوثر، وأراه لم يستقصها كلّها وما زال في السورة كثير من الوجوه)

3- محاولة تدريب ذوقك وإصقاله ورفعه ليقارب ذوق العرب فتستطيع الوقوف على إعجاز القرآن بنفسك كما فعل العرب، ويكون هذا من طريقٍ واحدٍ لا ثاني له، وهو ممارسة شعر أولئك العرب ومعرفة طرقه وأساليبه وحفظه وفهمه حتى يخالط لحمك ودمك، فإذا سمعت شيئًا مختلفا عنه عاليا عليه مرتفعا فوقه كالقرآن أدركت ذلك الاختلاف والعلو والارتفاع مباشرةً.
لذلك قال علماؤنا: الصادُّ عن الشعر صادٌّ عن كتاب الله.

والله أعلم

التعليقات مغلقة.