لَقَد حَقَّ القَولُ عَلى أَكثَرِهِم فَهُم لا يُؤمِنونَ﴾

سورة يس – 2 – قضية القدر
……..

﴿لَقَد حَقَّ القَولُ عَلى أَكثَرِهِم فَهُم لا يُؤمِنونَ﴾ [يس: 7]
هذه الآيات والآيات بعدها يرد عليها سؤال . ما العدالة في إنذارهم ودعوتهم ما دام قد حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون وأين العدالة في محاسبتهم على كفرهم وقد جعل الله في أعناقهم أغلالا ومن بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فهم لا يبصرون الحق
والجواب من السورة في قوله تعالى (﴿وَاضرِب لَهُم مَثَلًا أَصحابَ القَريَةِ إِذ جاءَهَا المُرسَلونَ۝إِذ أَرسَلنا إِلَيهِمُ اثنَينِ فَكَذَّبوهُما فَعَزَّزنا بِثالِثٍ فَقالوا إِنّا إِلَيكُم مُرسَلونَ﴾
[يس: 13-14]
حيث أرسل الله رسولين ولم يكتف بذلك بل عزز بثالث مما يؤكد أن الإضلال غير محبوب للرب سبحانه ولكنه جزاء عادل على إعراضهم .
وأيضا قوله تعالى تعقيبا على إهلاك القرية (يا حسرة على العباد) دليل على أن ذلك لازم حق عليهم ولا مناص من الحق فقوله حسرة يرفع إشكاله ويعلل وقوع العذاب والعقاب مع كراهته قوله (لقد حق القول).
وقوله لقد حق القول يرفع إشكال معاقبتهم على لازم لهم لا يتعدونه قوله تعالى (يا حسرة على العباد)

وأيضا فإن الجعل المذكور في قوله تعالى ﴿إِنّا جَعَلنا في أَعناقِهِم أَغلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذقانِ فَهُم مُقمَحونَ۝وَجَعَلنا مِن بَينِ أَيديهِم سَدًّا وَمِن خَلفِهِم سَدًّا فَأَغشَيناهُم فَهُم لا يُبصِرونَ﴾
[يس: 8-9]
هو جعل ربوبي قانوني لازم من لوازم ضلالهم وإعراضهم . فإن لوازم الربوبية العامة شيء ولوازم الربوبية الخاصة للمؤمنين شيء آخر . فمن الربوبية العامة والتي أدركها إبليس ما جاء في قوله تعالى (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين)
وقوله تعالى (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) وقوله (من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) وقوله (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)
فكذلك كل معرض مستكبر عن الحق مسرف مؤذ للمؤمنين يقع ضرورة في الضلالة والعمى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) كما وقع في قصة أصحاب القرية المذكورة في السورة حيث هددوا الرسل بالرجم لمجرد التذكير وقتلوا الرجل الذي قال لهم اتبعوا المرسلين وقد جاءهم يسعى مجتهدا من أقصى المدينة مع وضوح الدلالات والمعجزات التي قدمها الرسل ومع سخف اعتقادهم في آلهتهم المعبودة من دون الله
قال الرازي (وَأَمَّا الْحِكَايَةُ فَمَشْهُورَةٌ، وَهِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ فَدَعَيَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَظْهَرَا الْمُعْجِزَةَ مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَحَبَسَهُمَا الْمَلِكُ، فَأَرْسَلَ بَعْدَهُمَا شَمْعُونَ فَأَتَى الْمَلِكَ وَلَمْ يَدَعِ الرِّسَالَةَ، وَقَرَّبَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَلِكِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَسْمَعُ أَنَّ فِي الْحَبْسِ رَجُلَيْنِ يَدَّعِيَانِ أَمْرًا بَدِيعًا، أَفَلَا يَحْضُرَانِ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُمَا؟ قَالَ الْمَلِكُ: بَلَى، فَأُحْضِرَا وَذَكَرَا مَقَالَتَهُمَا الْحَقَّةَ، فَقَالَ لَهُمَا شمعون: فهل لكما بينة؟ قالا: نعم، فأبرءا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَيَا الْمَوْتَى، فَقَالَ شَمْعُونُ: أَيُّهَا الملك، إن شئت أن تغلبهم، فقال لِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمَلِكُ: أَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهَا لَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَقْدِرُ وَلَا تَعْلَمُ، فَقَالَ شَمْعُونُ: فَإِذَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ مِنْ جَانِبِهِمْ، فَآمَنَ الْمَلِكُ وَقَوْمٌ وَكَفَرَ آخَرُونَ)
..
وجعل الأيدي في الأغلال للأعناق دليل البخل والإقماح وهو رفع الرأس عاليا دليل الكبر فلا يرون حقيقة نفوسهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم حيثما توجهوا دليل عدم قدرتهم على رؤية الآفاق من حولهم فلم يستفيدوا بما جاء في قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)
ومن إحكام السورة تكرار المسألتين ثلاث مرات في السورة الأولى هنا
والثانية في قوله تعالى (.﴿وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّقوا ما بَينَ أَيديكُم وَما خَلفَكُم لَعَلَّكُم تُرحَمونَ۝وَما تَأتيهِم مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِم إِلّا كانوا عَنها مُعرِضينَ۝وَإِذا قيلَ لَهُم أَنفِقوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذينَ كَفَروا لِلَّذينَ آمَنوا أَنُطعِمُ مَن لَو يَشاءُ اللَّهُ أَطعَمَهُ إِن أَنتُم إِلّا في ضَلالٍ مُبينٍ﴾
[يس: 45-47]حيث تبين الآية الأولى أنهم منصوحون بإتقاء المجهول الذي يشير لضخامته عظيم وجليل ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهو كذلك يشير لضآلتهم .ثم تذكر الآية الثالثة ضعف تقواهم وانحسار وانحصار نظرتهم حيث لا يشعرون بغيرهم ولا يحسون به ولا ينظرون له فلا ينفقون على محتاج ولا يطعمون مسكينا .وهذا الموضع يبين التجانس بين الإنفاق والفهم وحسن الرأي والتجانس بين البخل وضعف الرأي . وهذا مناسب لقوله تعالى في أول السورة (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) خاصة أنهم خوطبوا بالإنفاق وهو أكرم وأوسع فنفوا ورفضوا الأقل وهو الإطعام والآية في تعبيرها كما قال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) فالموضع الثاني يزيد في رفع الإشكال المتوهم الوارد في الموضع الأول
الموضع الثالث قوله تعالى (﴿وَلَو نَشاءُ لَطَمَسنا عَلى أَعيُنِهِم فَاستَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنّى يُبصِرونَ۝وَلَو نَشاءُ لَمَسَخناهُم عَلى مَكانَتِهِم فَمَا استَطاعوا مُضِيًّا وَلا يَرجِعونَ﴾
[يس: 66-67]
فالآية الأولى تجانس ذكر السدين من بين أيديهم ومن خلفهم . والثانية تجانس ذكر الأغلال في أيديهم وأعناقهم المقمحة
والمعنى أن الله أعطاهم الأبصار والحركة ليمتحنهم لا لتكون سببا لعقوبتهم فلو شاء معاقبتهم أو منعهم من حرية اختيارهم للكفر أو للهداية لأعماهم أو ثبتهم مسوخا لا يذهبون ولا يجيؤون .
والآيتان مذكورتان بعد قوله تعالى (﴿اليَومَ نَختِمُ عَلى أَفواهِهِم وَتُكَلِّمُنا أَيديهِم وَتَشهَدُ أَرجُلُهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾
[يس: 65]
أي سلبوا في الآخرة الاختيار فلم يتحكموا بأعضائهم ولو شئنا لسلبناهم إياه في الدنيا ولكنه موجودة بقدرتنا لغرض الاختبار والآخرة وأنها محدودة لهذا الغرض
والآية بعدها قوله تعالى (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) أي قوتكم هذه لا تدوم بدليل أن من يعمر ينكس ويضعف بعدما قضى فترة الاختبار (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) فلا تتصرفوا كأن قوتكم منكم أو كأنها بمعزل عن قانون الخالق وحكمته وتدبيره .
والآيتان في الموضع الثالث أيضا يرفعان الإشكال المتوهم من الموضع الأول إذ يبين هنا أن لو كان المقصود من الأول قهرهم على الجهل بالحق و عدم معرفته ومن ثم معاقبتهم لمسخناهم في مكانهم فتحجروا وهو أبلغ من الأغلال المعنوية وطمسنا أبصارهم وهو أبلغ من السدين . هذا مع ما في كل موضع من الاختصاص .وذلك من إحكام السورة الذي ورد التنبيه عليه في أولها (يس والقرآن الحكيم)

التعليقات مغلقة.