أنواع عذاب الدّنيا بآل فرعون الآيات التسع

➤ أنواع عذاب الدّنيا بآل فرعون

الآيات التسع

✿#تفسير☟ المنير✿

{ بسم الله الرحمـٰن الرحيم }

( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) ) [سورة الأعراف]

1- الإعراب :

(مَهْما تَأْتِنا مَهْما) : اسم شرط ، والدّليل على أنه اسم عود الضمير إليه من قوله تعالى : (تَأْتِنا بِهِ) وهو منصوب بفعل : (تَأْتِنا) على قول من قال : زيدا ضربته ، ويجوز أن يكون في موضع رفع ، على قول من قال : زيد ضربته ، و (تَأْتِنا) : مجزوم بمهما ؛ لأنه شرط ، وجواب الشّرط قوله تعالى : (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

(آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) حال منصوب مما قبله من الأشياء المذكورة في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ …) والعامل : أرسلنا.

2- البلاغة :

بين (الْحَسَنَةُ) و (سَيِّئَةٌ) طباق.

وبين (طائِرُهُمْ) و (يَطَّيَّرُوا) جناس اشتقاق.

3- المفردات اللُغوية :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا) كثر استعمال الأخذ في العذاب ، كقوله : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢]. (آلَ فِرْعَوْنَ) قومه وخاصته ، وهم الملأ من قومه ، ولا يستعمل الآل إلا فيمن يختص بقرابة مثل : (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) [آل عمران ٣ / ٣٣] أو يختصّ بموالاة ومتابعة في الرّأي مثل : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ٤٠ / ٤٦].

(بِالسِّنِينَ) جمع سنة وهي الحول ، لكن كثر استعمالها في حول الجدب والقحط ، كما هنا ، فيكون المراد منها القحط ، بدليل نقص الثّمرات (يَذَّكَّرُونَ) يتّعظون فيؤمنوا. (الْحَسَنَةُ) الخصب والنّماء والرّخاء. (قالُوا : لَنا هذِهِ) أي نستحقها ولم يشكروا عليها. (سَيِّئَةٌ) جدب أو بلاء في الأنفس والأرزاق. (يَطَّيَّرُوا) يتشاءموا ويتطايروا ، وأطلق التّطير على التّشاؤم أخذا بعادة العرب في زجر الطّير ، فكانوا يتأمّلون الخير إذا طار الطائر يمينا ويسمّونه (السّائح) ويتوقّعون الشّرّ إذا طار شمالا ، ويسمّونه (البارح). (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) ما قضي لهم وقدّر ، والمراد به أن شؤمهم : هو عقابهم الموعود به في الآخرة. وعند الله : أي يأتيهم به (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما يصيبهم به من عنده.

(الطُّوفانَ) هو ماء دخل بيوتهم ، ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيّام. (الْجَرادَ) طائر معروف يأكل النبات ، وقد أكل زرعهم وثمارهم أيضا. (وَالْقُمَّلَ) هو السّوس الذي ينخر الحنطة ، وقيل : هو الدّود أو القراد الذي يأكل الزرع ، ويتبع ما أكله الجراد. (وَالضَّفادِعَ) المعروفة ، فملأت بيوتهم وطعامهم. (وَالدَّمَ) هو الرّعاف ، وقيل: هو دمّ كان يحدث في مياه المصريين. (مُفَصَّلاتٍ) بيّنات. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها.

4- التفسير والبيان :

➤ هذا هو الفصل الثّامن من قصّة موسى مع فرعون ، وهو فصل الجزاء والعقاب أو الآيات التي أنزلها الله على فرعون وقومه ، فبعد أن بشّر موسى عليه ‌السلام قومه بإنزال العذاب على فرعون وقومه بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) ذكر هنا ألوان العذاب قبل حلول عذاب الاستئصال ، للتّحذير والزّجر وتنبيه السّامعين من خطر الكفر والتّكذيب. وأما عذاب الاستئصال فهو إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل.

➤ وقد ذكر الله تعالى في سورة الإسراء أن الآيات أي آيات العقاب تسع ، بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ …) [١٠١].

➤ وذكر هنا سبع آيات ، ويضاف إليها المذكور في سورة يونس ، وهو : (وَقالَ مُوسى : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [٨٨] ،
➤ والطّمس على الأموال : هو محقها وهلاكها.

➤ وفسّر البيضاوي الآيات التّسع بأنها آيات أرسل بها موسى إلى بني إسرائيل ، وهي أحكام أمروا بالأخذ بها آيات عقاب ، عوقب بها فرعون وجنوده ، وهي : العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وانفجار الماء من الحجر ، وفلق البحر ، ونتق الطّور على بني إسرائيل. وقيل : الطّوفان ، والسّنون ، ونقص الثّمرات ؛ مكان الثّلاث الأخيرة.

والواقع أنّ فلق البحر إنّما كان بعد تمام الآيات ، وانبجاس الحجر بالماء إنما كان بعد هلاك فرعون ، فلا يصحّ أن يكون آية لفرعون وقومه. وأمّا العصا واليد فهما معجزتان لموسى عليه ‌السلام ، وليستا آيتي عذاب. فيكون في تقديري مجموع الآيات هكذا : السّنون ، نقص الأموال ، نقص الأنفس ، نقص الثّمرات ، الطّوفان ، الجراد ، القمّل ، الضّفادع ، الدّم (١). سبع منها مذكور هنا في سورة الأعراف ، وواحدة مذكورة في سورة يونس ، كما أبنت ، أمّا نقص الأنفس فهو ناجم عادة عن الجدب ، ونقص الثّمار ، والطّوفان ، قال مجاهد وعطاء : الطّوفان : الموت.

(١) قصص الأنبياء للنّجار : ص ١٩٨.

➤ ومعنى الآيات هنا : ولقد اختبرنا آل فرعون وامتحنّاهم وابتليناهم بسنين الجوع بسبب قلّة الزّروع ، أي في البادية ، وبنقص الثّمرات ، أي في الأمطار ، قال رجاء بن حيوة : «كانت النّخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة» ، ثم قال تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتذكّروا ويتّعظوا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم لآيات الله وعن ظلمهم لبني إسرائيل ، ويؤمنوا بالله ربّا ، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه ‌السلام ؛ لأنّ من سنّته تعالى أن يرسل الزّواجر تنبيهات ، ودلّت التّجارب على أنّ الشّدائد تليّن النّفوس ، فتكون المصائب والآفات ونقص الثّمرات سببا في رجوع الناس إلى الله تعالى ، فإن عادوا إلى ربّهم واهتدوا كان الخير والرّخاء ، وإن أعرضوا كان القحط والجدب والهلاك المحتوم ، وقد أعرض آل فرعون عن الاستجابة لدعوة موسى بعد أن أنذرهم ، فكانوا من الهالكين.

➤ ثم بيّن الله تعالى أنّ المصائب زادت آل فرعون عتوّا وبغيا ، فقال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ …) أي إذا جاءهم الخصب والرّزق وزيادة الثّمار والمواشي قالوا : لنا هذه ، يعني هذا لنا بما نستحقّه من العمل والمعرفة والتّفوّق ، وإن أصابتهم سيئة ، أي جدب وقحط ، تشاءموا بموسى ومن معه ، وقالوا : هذا بسببهم وما جاؤوا به ، وغفلوا عن واجب شكر نعمة الله ، وعن سيئاتهم وفساد أعمالهم وشرور أنفسهم ، كما قال تعالى في حقّ النّبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء ٤ / ٧٨].

➤ ثمّ ردّ الله عليهم بقوله : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي إن كلّ ما يصيبهم من خير أو شرّ ، فهو بقضاء الله وقدره ، فالله جعل الخير ابتلاء ليعرف الشاكر من الجاحد ، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط ، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم ، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله ، وهو حكمه ومشيئته ، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة ، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه ، كقوله تعالى : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويجوز أن يكون معناه : ألا إنما سبب شؤمهم عند الله ، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله ، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) [غافر ٤٠ / ٤٦]. (١)

ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون ، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات ، ولا أن الأمور تجري بالمقادير ، وأنّ كل شيء عنده بمقدار ، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه ، وإنما بسبب سوء العمل ، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور.

➤ وفضلا عن أن كلّا من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم ، فإنهم تمرّدوا وعتوا ، وعاندوا الحق ، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى : إن أي آية جئتنا بها ، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا ، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا ، رددناها ولم نقبلها منك ، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا.

➤ لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم ، فأرسل عليهم الطّوفان : وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار ، كما قال ابن عباس ، فالطّوفان : ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.

(١) الكشاف : ١ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩.

وأرسل عليهم الجراد ، فأكلت كلّ زروعهم وثمارهم ، ثم أكلت كل شيء ، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب. ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ، ففزعوا إلى موسى ، فكشف عنهم بعد سبعة أيام. خرج موسى عليه ‌السلام إلى الفضاء ، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجع الجراد إلى النّواحي التي جاء منها ، فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا.

فأقاموا شهرا ، فسلّط عليهم القمّل : وهو كبار القراد ، أو السّوس ، فأكل ما أبقاه الجراد ، ولحس الأرض ، أو صغار الذّباب أو البراغيث أو القمل المعروف الذي يلدغ ويمصّ الدّم ، أي أنّه سلّط عليهم بعد الجراد من الآفات الزراعية من صغار الذّر كالدودة ، فأكلت الزّروع واستأصلت كلّ شيء أخضر. ثم فزعوا إلى موسى فكشف عنهم ، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه.

فأرسل الله الضّفادع ، فدخلت بيوتهم ، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه ، وامتلأت منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرّقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فشكوا إلى موسى ، وقالوا : ارحمنا هذه المرة ، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ، ولا نعود ، فأخذ عليهم العهود ، ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد.

فأرسل الله عليهم الدّم ، أي تحوّلت مياههم إلى دم ، فكانوا إذا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقال : إنه قد سحركم ، فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء ، وما يلي القبطي دما.

كلّ ذلك آيات مفصّلات أي واضحات بيّنات ظاهرات ، لا يشكل على عاقل أنها من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره ، وأنها عبرة ونقمة على كفرهم ، وهي دالّة على صدق موسى ، إذ قد توعّدهم بوقوع كلّ واحدة منها تفصيلا.

أما فرعون وقومه فظلّوا على عنادهم وكبريائهم فاستكبروا عن عبادة الله ، ولم يتّعظوا ، وكانوا قوما مجرمين في حقّ أنفسهم وغيرهم ، مصرّين على الجرم والذّنب.

5- فقه الحياة أو الأحكام :

➤ ترشد الآيات في الجملة إلى قانون السّببيّة : وهو ربط الأسباب بالمسبّبات والنتائج على حسب مشيئته تعالى ، وإلى أن ما يتعرّض له الناس من آفات زراعية ومصائب فهو بسبب أعمالهم.

➤ وأما تفصيلا فدلّت الآيات على أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار ، لأجل أن يتركوا العناد والتّمرد ، ويرجعوا إلى الانقياد والعبودية لله ، لأن أحوال الشدّة ترقّق القلب ، وترغّب فيما عند الله ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧] ، وقال : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت ٤١ / ٥١].

➤ وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتّعظوا وترقّ قلوبهم ، يدلّ على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكّروا ، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.

*وأول آية على فرعون وقومه من آيات العقاب : السّنين أي الجدوب ، يقال : أصابتهم سنة أي جدب ، وفي الحديث الثابت : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنّي يوسف». يروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام ، وقيل : شهر ، وقيل : أربعون يوما.

**والثانية : نقص محصول الثّمار وغلاته نقصا شديدا مريعا ، لا يكفي أحدا.

وهذان عقابان ، كلّ منهما أخفّ من أنواع العقاب الأخرى ، بدءا بالتّدرج في العذاب لعلّهم ينزجروا ، ولكن القوم عند نزول تلك المحن عليهم لم يتّعظوا ولم يرعووا ، وإنما أقدموا على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم ، فقال تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ) الآية.

فهم ينسبون الخير من الخصب والثّمار وسعة الرّزق والعافية والسّلامة والمواشي إلى أنفسهم ، مدّعين أنهم جديرون بذلك ، مستحقّون للإكرام والإنعام ، لتفوّقهم وذكائهم ، وعملهم ومعرفتهم. أمّا الشّر من الجدب والقحط والمرض والضّر والبلاء فهو بسبب موسى وقومه وشؤمهم.

والحقّ أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عزوجل بذنوبهم ، لا من عند موسى وقومه ، ولكنّهم قوم يجهلون هذا المعنى ، فطائرهم عند الله ، أي ما قدّر لهم وعليهم.

➤ أمّا التّطيّر والتّشاؤم فجاء الإسلام بالنّهي عنه عند سماع صوت طائر ما كان ، وعلى أي حال كان ، لأن الواحد من أهل الجاهلية كان كثيرا إذا أراد الحاجة أتى الطّير في وكرها فنفّرها ، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته ، وهذا هو السّائح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع ، وهذا هو البارح عندهم ، فنهي النّبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم عن هذا بقوله فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز : «أقرّوا الطّير على مكناتها» أي بيضها أو على تمكنها فلا تنفّروها. وقال عكرمة : كنت عند ابن عباس ، فمرّ طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن عباس : ما عند هذا لا خير ولا شرّ. وقال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر : «لا طيرة ولا هام».

➤ قال العلماء : وأما أقوال الطّير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه ، ولا لها علم بكائن ، فضلا عن مستقبل فتخبر به ، ولا في الناس من يعلم منطق الطّير ، إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم من ذلك ، فالتحق الطّير بجملة الباطل (١).

وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال : «الطّيرة شرك ـ ثلاثا ـ وما منّا إلا (٢) ، ولكن الله يذهبه بالتّوكل».

➤ واشتدّ تمادى قوم فرعون في عنادهم ، فقالوا لموسى : مهما تأتنا من آية لتصرفنا عما نحن عليه ، فلن نصدق بك. ففي الآية الأولى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أسندوا حوادث هذا العالم ، لا إلى قضاء الله تعالى وقدره ، ثم وقعوا بجهالة وضلالة أخرى في الآية الثانية : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) وهي أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السّحر ، وجعلوا جملة الآيات الدّالة على صدق موسى مثل انقلاب العصا حيّة من باب السّحر منهم ، وقالوا لموسى : إنّا لا نقبل شيئا منها البتة.

➤ قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا لموسى : مهما أتيتنا بآية من ربك ، فهي عندنا من باب السّحر ، ونحن لا نؤمن بها البتة ، وكان موسى عليه‌ السلام رجلا حديدا ، فعند ذلك دعا عليهم ، فاستجاب الله له ، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا ونهارا ، سبتا إلى سبت ، ثم ذكر بقية الآيات الخمسة ، وهي : الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

➤ أمّا الطّوفان : فهو المطر الشّديد حتى عاموا فيه ، وأمّا الجراد فأكل النّبات ، وأما القمّل فلم يبق في أرضهم عودا أخضر. إلا أكلته ، وأما الضّفادع فخرج من البحر مثل الليل الدّامس ووقع في الثّياب والأطعمة ، فكان الرّجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضّفادع ، وأما الدّم فجرت أنهارهم دما ، فلم يقدروا على الماء العذب. وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطّيّب.

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٢٦.

(٢) قال ابن الأثير : هكذا جاء في الحديث مقطوعا ، ولم يذكر المستثنى ، أي إلا وقد يعتريه التّطيّر ، وتسبق إلى قلبه الكراهة ، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السّامع. وقوله : «ولكن الله يذهبه بالتّوكل» : معناه أنه إذا خطر له عارض التّطيّر ، فتوكل على الله وسلّم إليه ، ولم يعمل بذلك الخاطر ، غفره الله له ولم يؤاخذه به.

➤ فاشتكوا إلى موسى وفرعون ، فقال فرعون لموسى : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ..) إلى آخر الآية الآتي بيانها.

وتلك الآيات البيّنات لا يخفي على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره. ومع ذلك استكبروا عن عبادة الله وعن الإيمان به وكانوا قوما مجرمين أي مصرّين على الجرم والذّنب.

➤ واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حلّ بأرض فأفسد ، فقيل : لا يقتل ، وقال أكثر الفقهاء : يقتل.

➤ احتجّ الأوّلون : بأنه خلق عظيم من خلق الله ، يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم ، أي لا تبعة عليه ، وبما روى الطبراني والبيهقي عن أبي زهير ، وهو ضعيف : «لا تقتلوا الجراد فإنه من جند الله الأعظم».

➤ واحتجّ الجمهور : بأن في ترك الجراد فساد الأموال ، وقد رخّص النّبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله ، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال ، كانت أولى أن يجوز قتلها. وروى ابن ماجه عن جابر وأنس بن مالك أنّ النّبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم كان إذ دعا على الجراد قال : «اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء» ، قال رجل : يا رسول الله ، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال : «إن الجراد نثرة (١) الحوت في البحر».

(١) النّثرة : شبه العطسة.

➤ وأما أكله فجائز في السّنّة ، ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : غزونا مع رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم سبع غزوات ، كنّا نأكل الجراد معه. وأكله جائز باتّفاق الأمة ، وأنه إذا أخذ حيّا وقطعت رأسه أنه حلال بالاتّفاق ، وذلك بمنزلة الذّكاة (الذّبح).

➤ واختلفوا هل يحتاج إلى اصطياد؟ فقال الجمهور : لا يحتاج إلى ذلك ، ويؤكل كيفما مات ، كالحيتان ، لما روى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم قال : «أحلّ لنا ميتتان : الحوت والجراد ، ودمان : الكبد والطّحال».

➤ وذهب مالك إلى أنه لا بدّ للجراد من سبب يموت به ، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك ، أو يطرح في النّار ، لأنه عنده من حيوان البرّ ، فميتته محرّمة.

➤ وأما الضّفادع فلا تؤكل إلا في مذهب مالك.

التعليقات مغلقة.