كان يحكم إسبانيا في ذلك الوقت قبل الفتح الاسلامي القوط الغربيون

عن حال إسبانيا قبل الفتح العربي الإسلامي يقول المستشرق والعالم ستانلي لين بول:

«كان يحكم إسبانيا في ذلك الوقت القوط الغربيون، وهم قبيلة متوحّشة كغيرها من القبائل التي اكتسحت ممالك الإمبراطورية الرومانية إبَّان ترنُّحها للسقوط، أمَّا القوط الشرقيون فقد احتلوا إيطاليا، وتركوا أبناء عمومتهم من القوط الغربيين يأخذون مكان بعض القبائل الجرمانية الجافية، ويدقون أطناب حكمهم بإسبانيا في القرن الخامس الميلادي ..

وكانت إسبانيا عندما دخلها القوط منحلَّة العُرَا، غارقة في ألوان من الترف الفاجر، والنعيم الذي يسلُب الرجولة، وبمثل هذا العبث وذلك الفجور ذهبت ريح دولة الرومان قبلهم، فإن الرومان كغيرهم من رجال الحروب، حينما انتهوا من غزواتهم الكثيرة المتعاقبة بالنصر والغَلَب ورأوا الدنيا تحت أقدامهم، انصرفوا إلى الراحة بعد الجهد الشاق، والجهاد المضني، وألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والأمن الشامل، فذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية آبائهم الشجعان البُسْل الذين كانوا يرضون بالكفاف، ويتركون آلة الحرث ليجردوا السيوف ماضية بتَّارة، إذا دعاهم أحد القياصرة لحماية بلادهم، أو لغزو قارة جديدة ..

كانت الطبقة الغنية بإسبانيا في عهد الرومان قد خلعت العِذار لأنواع الترف والشهوات، حتى لكأنَّها لم تخلق إلا للطعام والشراب، واللهو والقمار، ولكل ما يثير النفس العابثة ويُرضي نزعاتها، وكانت الطبقة الدنيا تشمل العبيد وأحلاس الأرض الذين أخلدوا إلى زراعتها حتى كأنهم قطعة منها لا يفارقونها حياتهم، فإذا انتقلت إلى مالك جديد، انتقلوا إليه معها ..

وبين هاتين الطبقتين — طبقة الأثرياء، وطبقة العبيد والأحلاس — كانت الطبقة الوسطى من سُكّان المدن الأحرار تُلاقي من سوء الحال وضَنْك العيش ما كان شرًّا مما يلاقي العبيد وأشد نكراً، فعليهم كان يقع عبء الإنفاق على الدولة، فهم الذين يؤدون الضرائب، ويقومون بخدمة الدولة وما تتطلبه المدن من الأعمال، وهم الذين يجمعون الأموال للأغنياء ليبعثروها في لذائذهم، وبديهي أن دولة تصاب بهذا الفساد وذلك الضعف لن تكون بها مُنَّة على صد فاتح بطاش شديد الشكيمة ..

كان النبلاء والأغنياء — وهم في غمرة من النعيم ورفاغة العيش — لا يسمعون ما يلغَط به الناس من اقتراب الأعداء، وكانت سيوفهم قد صدِئت من طول ما مكثت في أغمادها، وكان العبيد لا يأبهون لتغلُّب حاكم على حاكم، لأنهم وصلوا إلى حال من الذل والبؤس بحيث لا يستطيع حاكم جديد أن يصيبهم بشر منها، وكانت الطبقة الوسطى ساخطة حانقة، وقد بهظها ما كانت تحمل من تكاليف الدولة، وما كان يقع عليها من الغُرْم من غير أن تنال من الغُنْم شيئاً ..

وإن شعباً هوى إلى هذه الهوة، وتدهور في هذا الدرك لا يستطاع في حكم البديهة أن يؤلَّف من رجاله جيش قوي مكافح، لذلك دخل القوط إسبانيا واستولوا عليها بدون عناء، وفتحت لهم المدن أبوابها عن طواعية، وخضعت لهم الحضارة الرومانية العليلة دون أن تمد للدفاع كفّاً، وفي الحق إن طريق القوط إلى الفتح كانت قد مُهِّدت بمن نزل قبلهم بإسبانيا من متوحشي الأللان والوندال والسوابي، فلم يكلفهم الغزو جهداً، أو يحمِّلهم عنتاً، فقد علّم الرومانيون من سكان إسبانيا حق العلم، ما يجر وراءه غزو المتوحشين من نكبات وأوزار، فكم رأوا مدائنهم والنار تلتهمها التهاماً، وكم رأوا زوجاتهم وأولادهم يساقون إلى الذل والأسر، وكم رأوا قوادهم يقتلون صبراً، رأوا عواقب هذه الحروب ولعناتها، وما يتصل بأذيالها من الطواعين والمجاعات والقحط وشيوع الفوضى الضاربة، وعلمتهم هذه الكوارث درساً لم ينسوه، فألقوا القياد للقوط خاضعين ..

وكان للقوط بإسبانيا أكثر من مائتيّ سنة حينما وصل العرب في أوائل القرن الثامن إلى شواطئ المحيط الأطلنطي بإفريقية، وعبروا بأبصارهم مضيق هرقل، فشاهدوا من بُعدٍ ولايات إسبانيا المشرقة، وكان للقوط منذ أن دخلوا إسبانيا متسع من الوقت لإصلاح ما فسد من شئونها، وبعث روح جديدة في الشباب، وكان عليهم أن يستفيدوا من مدنية الرومان، فكثيراً ما استفادت العناصر المتوحشة التي كملت فيها صفات الرجولة من اندماجها في المدنيات القديمة الذابلة، وكان هناك أسباب خاصة تدعو القوط إلى إصلاح أحوالهم، فإنهم لم يكونوا شجعاناً أشداء فحسب، بل كانوا — فيما يزعمون — نصارى مخلصين، والحقيقة أنهم عندما استولوا على إسبانيا لم تكن النصرانية فيها إلا صورة ورسمًا، لأن (قسطنطين) اكتفى بجعل النصرانية دينَ الإمبراطورية الرومانية، ولم يُعْنَ بتقوية دعائمها في الممالك الغربية، وكان في حكم الظن أن يكون هبوط دين جديد على أمة جاهلة كالقوط جديراً بأن يثير حماستها، ويملأ صدورها بالأمل بعد أن رزحت تحت أثقال الوثنية طويلاً، حتى لقد طمع قساوسة الكاثوليك في أن يكون لهم ولكنائسهم في العهد الجديد شأن مذكور، ولكن النتائج لم تؤيد المقدمات، فإن القوط جعلوا من أعمالهم الدينية ذرائع لغفران ما يجترحون من ذنوب وآثام، وأعدُّوا لكل إثم نوعاً من التوبة، واقترفوا الذنب ليتوبوا منه من جديد، دون أن يجدوا لذلك في صدورهم حرجاً ..

وجملة القول أنهم كانوا كأشراف الرومان الذين سبقوهم عادةً وسوءَ خلق، ولم تدفعهم النصرانية إلى شيء من الخير والإصلاح فكانت حال أحلاس الأرض اللازمين خدمتها أسوأ مما كانت في عهد الرومان، لأنهم لم يكتفوا بإلزامهم خدمة أرض بذاتها، أو سيِّد بعينه، بل حتَّموا عليهم ألا يتزوجوا إلا برضاء السيد، وأنهم إذا أصهروا من ضيعة مجاورة قُسِمت ذريتهم بين صاحبي الضيعتين ..

وحملت الطبقة الوسطى — كما كانت الحال في حكم الرومان — عبء الضرائب، فجرَّ ذلك إلى خراب هذه الطبقة وإفلاسها، وكانت الأراضي في قبضة عدد قليل من الأغنياء، يقوم على خدمتها وزراعتها عدد عديد من العبيد البائسين الذين يعيشون بلا أمل في الانتعاش من كبوتهم، أو حُلم في الخلاص من بؤسهم، وحسبك أن رجال الدين كانوا يخطبون ويُشيدون بالأخوَّة المسيحية بعد أن أثروا وملكوا الضياع الواسعة، اتبعوا السياسة الموروثة، وعاملوا عبيدهم وخَولهم بالعسف والشدة كما كان يفعل أثرياء الرومان، ثم إن أغنياء القوط غرِقوا في صنوف من النعيم أفقدتهم الحِسَّ، ونافسوا الوثنيين في الفجور، ففلجوا عليهم حتى أدركهم ذلك السُّبات الذي أطاح بدولة الرومان ..

يقول بعض المؤرّخين — وهو يحاول تمحيص الأسباب التي أدَّت إلى تغلب المسلمين على المسيحيين: «إن الملك ويتزا «غِيطشة» علَّم إسبانيا كيف تقترف الآثام»، ولكن إسبانيا كانت قد تعلّمت ذلك على أحسن وجوه العلم قبل «غيطشة» بزمن بعيد، وربما لم يكن هذا الملك أسوأ من سابقيه الذين أغرقوا في الشهوات، وترخصوا في كل ما أصاب الدولة من الفساد والتدهور، ولما كانت آثام القوط المتوحشين قريبة الشبه جدّاً من مآثم الرومان الدائلين، لم تشعر المملكة عند انتقال الحكم من الرومان إليهم بشيء جديد» ..

هكذا كانت إسبانيا حينما اقترب المسلمون من حدودها، طبقة فاسدة مُفسدة من الأغنياء، قسمت الأرض بينها ليزرعها العبيد وأحلاس الأرض البائسون اليائسون، ثم طبقة من سكان المدن لم يُبْقِ لها الظلم والعسف رطباً ولا يابساً».

المصدر:

  • ستانلي لين بول / قصة العرب في إسبانيا.

التعليقات مغلقة.