تاريخ العصر المملوكي الجزء الرابع

تاريخ العصر المملوكي الجزء الرابع

توقفنا في الفقرة السابقة عند الملك الصالح أيوب ؛ وتعرفنا على دور المماليك في الدولة الأيوبية سواء في صراعاتها الدخلية أو صراعاتها مع الصليبيين و القوى المجاورة ..

وكنا تكلمنا عن المصادر والوسائل التي كانت تمد السلاطين والأمراء بهذه الأعداد الكبيرة من الغلمان المماليك؛ فماذا كان أكبر سبب أدى لزيادة تلك الموارد و سهل الحصول عليهم؟

وتطرقنا إلى مصطلح مر سريعا لم نوضحه هو الجند الخوارزمية فماذا كانت قصتهم ؟

وتوقفنا أيضا عند مقدم الحملة الصليبية السابعة إلى دمياط بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع في أواخر عهد الصالح أيوب ؛
فماذا كانت أسباب تلك الحملة ؟ وماذا كان دور المماليك في دحرها ؟ وماعلاقتهم بشجر الدر و توران شاه ؛ وكيف انتهى عصر الدولة الأيوبية ذلك الوقت في مصر؟

هذا ما سنعرفه في هذه الفقرة المهمة فإلى التفاصيل …
————–‐—————————————————–
🔹️ قصة الجند الخوارزمية

في نهاية القرن السادس الهجري التي تزامنت مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي ؛ نشطت حركة المغول بزعامة جنكيز خان وبدأ زحفهم نحو الاراضي الاسلامية سنة (599 ه/1202م) ، فاستولوا على بخاري وسمرقند وقتلوا اهلهما وسبوهم وحاصروا خوارزم شاه ، فانضم اليهم الخطائيون من جنده وصاروا تبعا لهم (*1)

واخلي خوارزم شاه البلاد قبل مقدمهم فلم يجدوا أحدا يردهم ، ووصلوا سنة (615 ه /1217م) الى الري وقزوین و همدان وقتلوا أهلها واحرقوا مساجدها ، وفعلوا بأذربيجان ما فعلوه بغيرها من المدن (*2) .

وحاول خوارزم شاه الاستنجاد وقتذاك بالسلطان العادل أیوب وهو مرابط بمرج الصفر ، فبعث العادل بالجواب متأخرا بعد أن اندفع خوارزم شاه بين يدي الخطا والتتار شریدا مخذولا من عسكره الخوارزمية (*3) .

وانبسطت يد جنكيز خان واشتد ساعده وخلت البلاد من المقاومة فبعث سنة (618 ھ / 1220م) بأولاده واحفاده الى الآفاق ، فتوجه باطو بن دوش بن جنكيز خان الى البلاد الشمالية ، وبلغت جموعه الدربند على بحر الخزر ( قزوین ) ، وحدثت بينهم وبين القبجاق والروس وقعة كبيرة سنة (620/ 1222م)، انتهت بهزيمة القبجاق والروس و تشريدهم في الافاق على غير هدى (*4) ،

واستولی باطو على ما بتلك الجهات من طوائف الترك وقبائل القبجاق والعلان واللان والادلاق والجرکس والروس وتمكنوا منهم قتلا وسبيا ونهبا ، وجلبت سبايا هذه الاجناس إلى البلاد الشامية والمصرية ، فمنهم المماليك العادلية والكاملية والأشرفية والمعظمية والناصرية والعزيزية ، وحسنت آثارهم في الممالك الاسلامية (*5)

ثم رجعت جموع التتار جنوبا حتى هبطت على الري فوضعوا السيف في أهلها ، وأنزلوا بها الدمار والخراب، وفعلوا مثل ذلك بمدن قم وقاشان وهمدان ، وكلها تابعة للدولة الخوارزمية .

ثم تعقبوا الجيوش الخوارزمية إلى أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وأعقب ذلك هزيمة سلطانهم جلال الدین خوارزم شاه في أصفهان سنة( 623 ه/ 1226م)(*6) ،

وغلب على حروب جنگیزخان الاكتساح والتخريب والتدمير کي تصبح البلاد المفتوحة مراعي كافية للجموع المغولية (*7)

ولم تغير وفاة جنكيز خان سنة(624 ه/ 1227م) شيئا في الحركة الذاتية الدافعة للمغول ، إذ أسهم أولاده واحفاده أثناء حياته في مواصلة هذه الحركة

قسم جنكيز خان بين أبنائه الممالك فجعل لأكبر أولاده دوش خان مملكة تمتد من اطراف خوارزم إلى أقصى بلاد ساقسين وبلغار المتاخمة لاطراف الامبراطورية البيزنطية ، ويقع في سلطانها الترك والقبجاق وطوائف من الجركس والروس والاص ، وبينها وبين أذربيجان باب الحديد والدربند ، وعاصمتها صراى على نهر الفولجا (*8)

وهذه هي المملكة التي صارت معروفة فيما بعد باسم القبيلة.الذهبية نسبة الى اللون الغالب على خيام معسكراتهم (*9)

أما جغتاي ابن جنكيز خان فحكم بلاد أویغور وما وراء النهر من سمرقند و بخاری وعاصمتها قراقورم . وشملت مملكة تولي خراسان و ولايات المجم والعراق وهي التي اضيفت اليها فيما بعد اذربيجان والروم والجزيرة وعاصمتها تبریز (10) ، وصارت معروفة بالايلخانية الفارسية (11) .

وصفوة القول أن التتار استمروا في زحفهم في الأراضي الإسلامية.بعد وفاة جنكيز خان ، فأوغل باطو بن دوش خان في أذربيجان حتى أزال الدولة الخوارزمية ، وغدا جلال الدین خوارزم شاه شریدا في البلاد حتى وقع في أيدي المغول فقتلوه سنة (628 ه/1230م) في قرية من اعمال
میافارقين (*12)

فتفرق جنده من الخوارزمية وساءت أحوالهم ، وقصد فريق منهم بلاد سلاجقة الروم فاستخدمهم السلطان علاء الدین کیقباد السلجوقي إلى أن مات سنة (634 ه/ 1236م) (*13)

ولم يعرف الناس ما سوف يحدث بعد ذلك فدخل جماعة مثلا على الملك الأشرف موسی صاحب دمشق فهنأوه بموت
عدوه خوارزم شاه فقال : “والله لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتار الى بلاد الاسلام ” ؛ أي أن إنهيار المقاومة الخوارزمية العنيدة ماهي إلا إیذان بقرب الخطر المغولي على جوف البلاد الاسلامية (*14) .

وقد استولی باطو بن دوش خان على بلاد العجم كلها سنة (629 ه/1231م) ، وباتت دويلات الأيوبيين في الجزيرة وحران قاب قوسين من الخطر المغولي ، فخرج الكامل سلطان مصر من دمشق إلى ديار بكر بعد أن اجتمع باخیه الأشرف واتفق معه على دفع التتار (*15)

وفي سنة (633 ه/1235م) جاء الخبر إلى الكامل بأن فرقة من التتار قطعت دجلة في مائة كتيبة کل كتيبة خمسمائة فارس ، ووصلت الى سنجار فخرج إليها إبن مهاجر أمیر سنجار فقتلوه (*16) ،

واستنجد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بالكامل ، فاوقف الحرب مع السلاجقة الروم ،وعاد إلى دمشق وأرسل إبنه الصالح ایوب لدفع التيار المغولي الداهم ، فسار بجماعته وأهله وأولاده بعد أن عينه أبوه واليا على بلاد الشرق ، وجعله ولي عهده في سلطنته ..

فتسلم الصالح سنة (634 ه/ 1236م) حصن کیفا ودخل في حكمه حران والرها و سروج والرقة ورأس العين وآمد .

واستخدم الجند الخوارزمية في هذه السنة وعددهم
إثنا عشر ألف مارس بعد أن ساءت معاملة السلطان غیاث الدین کیخسرو السلجوقي لهم ، وهربوا من بلاده ونهبوا ما قدروا عليه وعبروا الفرات ، وكتب الصالح الى والده الملك الكامل يستأذنه في استخدامهم عنده ، فإذن له في ذلك ، وتقوى بهم ، وأقطعهم مواضع بالبلاد الجزرية (الفراتية) (*17)

غير أن الجند الخوارزمية طمعوا في الصالح ومالوا إلى
نهب البلاد التي صارت إقطاعا لهم ، وخرجوا على طاعته وهموا بالقبض عليه فهرب إلى سنجار ، ولم يكتفوا بذلك بل هاجموا بدر الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل، ولم ينجه من الوقوع في أيديهم إلا الهرب من وجههم (*18).

على أن الصالح أیوب إستطاع استمالتهم فيما بعد ، وأقطعهم سنجار وحران والرها فقاموا في خدمة إبنه الملك المغيث ، وساروا معه إلى سنجار واستخلصوها من جند لؤلؤ صاحب الموصل ، کما زحفوا الى آمد فطردوا السلاجقة عنها (*19) ۰

ثم أصهر الصالح إليهم فزوج مقدمهم حسام الدين بركة خان من أخت الصالح من أمه (*20) ،

لكن الخوارزمية عادوا إلى نهب البلاد شمال الشام ، وأخذوا يعلنون لأهل حلب وحمص ودمشق أنهم يفعلون ما يفعلون لخدمة صاحب مصر ، وذلك لأن ملوك هذه البلاد اعداء له .

ومع أن صاحب حمص إستطاع هزيمتهم ومطاردتهم لم يكف الخوارزمية عن النهب والسلب حتى هجموا سنة(642 ه/ 1244 م) على مدينة بيت المقدس واخذوها من الصليين وواصلوا سيرهم نحو غزة في طريقهم إلى مصر ..

و في غزة ارسل الخوارزمية إلى السلطان يطلبون اليه الاذن في دخول الأراضي المصرية ، فامرهم بالاقامة في غزة ووعدهم بلاد الشام فضلا عما بيدهم من البلاد الفراتية، وأرسل إليهم الخلع والخيل والأموال في سبيل إيقافهم خارج أطراف مصر (*21)

ثم جهز السلطان الصالح ایوب عسکرا بقيادة بيبرس لمحاربتهم وهو أحد ممالیکه الأخصاء ، فانحاز اليهم عند غزة .

ولم يجد السلطان بدا من التحالف مع صاحب حمص سنة (644 ه/ 1246م) . واستطاع أن يهزم الخوارزمية ويقتل مقدمهم ، فانحاز بعضهم الى التتار ، ووقع مملوکه القديم بيبرس في يده فأمر بحبسه (*22)

واثناء هذه الاضطرابات بالممتلكات الأيوبية بالشام نفذ التتار الى بلاد سلاجقة الروم ، فصالحهم الملك غیاث الدین بن علاء الدين بن كیقباد على أن يدفع إليهم جزية وانتهى الأمر بإقامة حامية من التتار في بلاده بعد وفاته سنة (ه 634 ه/ 1237م) (*23)

ثم مات السلطان الصالح ایوب سنة (647 ه/ 1249م)قبل أن يتمكن من طرد الفرنسيين الذين استولوا على دمیاش، فقام بتدبير الجيش كبار قواده من المماليك بمشورة زوجه شجر الدر ، حتى وصل ابنه توران شاه من حصن کیفا بديار بكر ؛ واستطاع تحقيق النصر على الصليبيين بمساعدة المماليك ..
————–‐—————————————————–
🔹️ دور المماليك البحرية في التصدي للصليبيين

في عام (647 ه/ 1249م) استهدفت مصر في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي لخطر هجوم صليبي كبير بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، الذي اشتهر بالتقوى والورع، ولم تكن هذه
الحملة التي تستحق لقب حملة دينية منذ أيام جودفري (*24)
أولى المحاولات الصليبية التي هاجمت مصر بهدف السيطرة عليها، إنما وقعت عدة محاولات متوالية لغزوها منذ أواسط القرن الثاني عشر الميلادي ..

والجدير بالذكر أن الشرق الأدنى الإسلامي تعرض ابتداء من أواخر القرن الحادي عشر لخطر هجوم أوروبي غربي واسع عرف بالحروب الصليبية، وقد انتهت بنهاية القرن الثالث عشر، في حين استمرت ذيولها حتى القرن الخامس عشر

هذا ويحدد المؤرخون عدد الحملات الصليبية التي خرجت من الغرب إلى الشرق، في المدة الواقعة بين نهاية القرن الحادي عشر ونهاية القرن الثالث عشر ، بثماني حملات اتجهت أربع منها نحو بلاد الشام وهي الأولى والثانية والثالثة والسادسة، واثنتان ضد مصر هما الخامسة والسابعة، وواحدة ضد القسطنطينية هي الرابعة، وأخرى نزلت في شمالي أفريقيا وهي الثامنة …

وكانت البواعث الظاهرية لهذا الهجوم الأوروبي الواسع على الشرق الإسلامي، انتزاع الأراضي المقدسة المسيحية من أيدي المسلمين، في حين تعددت البواعث الحقيقية من اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وغيرها.

ومنذ أوائل القرن الثالث عشر الميلادي طرأ تطور هام في مسار الحركة الصليبية نتيجة تنامي القوة الإسلامية في مصر بشكل خاص.

فبعد أن كانت بيت المقدس هي الهدف الأساسي للحملات الصليبية، فقد اتجهت الحملة الصليبية الخامسة (615 ه/ 1218م)، بزعامة حنا دي برين (1210م – 1225م) – صاحب عكا، والملك الإسمي لبيت المقدس – اتجهت إلى مصر، التي تعتبر مفتاح بیت المقدس، بهدف الاستيلاء عليها.

إذ ظن حنا أن الاستيلاء على مصر يعتبر خطوة تمهيدية
وضرورية لاستعادة بیت المقدس وسائر بلاد الشام ؛ وكان ريتشارد قلب الأسد، أحد قادة الحملة الصليبية الثالثة من سنة (585 ه/ 1189م) إلى سنة (588 ه/1192 م) كان قد أوصى بمهاجمة مصر، إذ اعتبرها النقطة الضعيفة في العالم الإسلامي وهي مفتاح بلاد الشام .

كما أن مجمع اللاتران، الذي عقد برئاسة البابا أنوسنت الثالث في عام (612 ه/ 1215م)، أشار إلى ضرورة مهاجمة مصر، لأن الصليبيين إذا تمكنوا من الاستيلاء عليها، فإن المسلمين سوف يفقدون إقليما إستراتيجيا وغنيا، مما سيؤثر سلبا على قدراتهم العسكرية، فلا يستطيعون المحافظة على أسطولهم في شرقي البحر الأبيض المتوسط، ولن يستطيعوا البقاء في بيت المقدس بعد أن تقع قواتهم بين القوات الصليبية في عكا ومصر .

و قد تقرر في هذا المجمع أن تكون دمياط هي الهدف الأساسي ؛ وعلى ضوء ذلك يمكن أن نفسر التحول الجديد في مسار الحملات الصليبية واتجاهات الصليبيين وتوجههم نحو مصر منذ أوائل القرن الثالث عشر ..(*25)

لكن الحملة الصليبية الخامسة فشلت في تحقيق غايتها واضطر أفرادها إلى مغادرة مصر في عام (618 ه/ 1212 م).

ولم تمض ثلاثون سنة على انتهاء هذه الحملة، حتى توجهت الحملة الصليبية السابعة(*26) ، بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، إلى مصر بهدف الاستيلاء عليها وتحقيق الحلم الصليبي القديم وهو استعادة بيت المقدس وأراضي بلاد الشام، وتدعيم الكيان الصليبي المتداعي .

لقد تعددت وتشعبت أسباب هذه الحملة ؛ فمنها أسباب رئيسية تنطوي على الدوافع الحقيقية لقيامها، كما أن هناك عوامل ثانوية ساعدت على التنفيذ (*27) .

ولعل أهم الدوافع الحقيقية التي أثارت شعور الملك الفرنسي بصورة خاصة والغرب الأوروبي بصورة عامة، وحفزت الجميع للثأر ، هي :
▪︎1- تعرض الصليبيين في الشرق إلى مضايقات خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي ، على يد الخوارزمية بشكل خاص .
▪︎2- ضیاع بیت المقدس منهم، حيث استعادها الملك الصالح أيوب بمساعدة الجند الخوارمية ،الذين نگلوا بسكانها النصارى، ونهبوا دورهم وأموالهم، حتى أضحى وضعهم مقلقا من وجهة النظر الصليبية .

3- لقد أنزل المسلمون ضربات قاسية بباقي الممتلكات الصليبية في بلاد الشام، تمثل بعضها باستعادة الصالح أيوب طبرية وعسقلان في عام (645 ه/1247م) حتى أضحت باقي ممتلكاتهم ومعاقلهم مهددة بالخطر والضياع .

أما فيما يتعلق بالأسباب الثانوية فلعل أهمها:

1- لقد حدث أن مرض لويس التاسع حتى أشرف على الموت. ولما أفاق من شدة المرض نذر إن من الله عليه بالشفاء، أن يحمل الصليب ويذهب لغزو الأراضي المقدسة .

2 – يرى بعض المؤرخين أن الملك الفرنسي حمل الصليب، وتعهد القيام بحرب مقدسة لإنقاذ صليبيي الشرق، إثر رؤيا ظهرت له أثناء مرضه، فحواها أنه رأي فيما يرى النائم شخصين يتقاتلان، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وقد انتصر الأول على الثاني، ففسر هذه الرؤيا بحاجة صليبيي الشرق إلى المساعدة، وأن الله أناط به هذه المهمة .

3- كان للآثار والذخائر الدينية المقدسة التي حصل عليها لويس التاسع من حنا دي برين، الملك الإسمي لبيت المقدس، وبلدوين الثاني، أمبراطور القسطنطينية اللاتيني(فترة الإحتلال النورمندي للقسطنطينية)، أثر غير مباشر دفعه للقيام بحملته على مصر من أجل استعادة بيت المقدس .

4 – نتيجة لوقوع الكوارث بالصليبيين في الشرق، فقد أرسل هؤلاء الرسل إلى الغرب الأوروبي يستنجدون به، وأنذروا الأوروبيين باحتمال ضياع ما تبقى من ممتلكاتهم إذا لم يلبوا نداء الاستغاثة .

5 – ساند البابا أنوسنت الثالث مشروع لويس التاسع، فدعا إلى الاشتراك في الحملة الصليبية السابعة، خشية من أن يطغى نفوذ الملك الفرنسي، الذي اشتهر بالورع والتقوى، و عرف بمواقفه الحازمة حيال الكنيسة ورجال الدين، على نفوذه کرجل دين ورئيس أعلى للكنيسة اللاتينية .

والواقع أن حملة لويس التاسع شكلت تهدیدا فعليا لمصر فاق الأخطار التي تعرضت لها في الحملات السابقة، ولعل أسباب ذلك تعود إلى :

1- أن الحملة اتسمت بدقة التنظيم ووفرة الإعداد والتجهيز .
2- لقد ترأس الحملة ملك من أعظم ملوك أوروبا آنذاك وأشدهم تدينا وتحمسا للفكرة الصليبية .

3- إن ظروف الشرق الإسلامي، ساعدت على إضفاء الخطورة الشديدة على مصر، نظرا لأوضاعها الداخلية الصعبة، ذلك أن الحملة وصلت إلى هذا البلد في الوقت الذي كان فيه السلطان الصالح نجم الدين أيوب يعاني آلام المرض، فلم يتمكن من قيادة مماليكه، (*28)

فعهد إلى وزيره فخر الدين يوسف بقيادة الجيش، وطلب إليه الإسراع إلى دمياط، التي كانت هدف الحملة، للتصدي للصليبيين ومنعهم من النزول إلى البر، كما زود المدينة بمقادير وافرة من المؤن (*29) .

وبالرغم من التدابير الدفاعية المتخذة، فقد تمكن الجيش الصليبي من النزول إلى دمياط واستولى عليها في (شهر ربيع الأول عام 647 ه شهر حزيران عام 1248م) ، وانسحب فخر الدين مع جنوده منها (*30) .

ارتاع المسلمون لسقوط دمياط، وحزن الصالح أيوب حزنا شديدة لوقوعها في قبضة الصليبيين، وعنف مماليكه ووبخهم لإهمالهم في الدفاع عنها، وشنق ما يزيد عن خمسين أميرا من رجال بني كنانة الذين تركوا مواقعهم الدفاعية، وهربوا(*31)

ويبدو أن المماليك تخوفوا، عندئذ، من نوايا الصالح أيوب تجاههم، ودخل الشك إلى قلوبهم، ففكروا في التخلص منه، لكن حال بينه وبينهم الوزير فخر الدين الذي أقنعهم بالصبر بفعل اشتداد مرضه بعد أن.بئس الأطباء من شفائه.

وفعلا لم يلبث الصالح أيوب أن قضى نحبه في (2 شعبان عام 647ه / 23 تشرين الثاني عام 1249م) والحرب لم تضع أوزارها بعد بین المسلمين والصليبيين ..(*32)

جاءت وفاة الصالح أيوب، في تلك الظروف الحرجة، خسارة كبرى، لعدم وجود من يحل محله بسرعة في حكم البلاد وفي مواجهة الصليبيين. لكن ظهرت فجأة زوجته شجرة الدر، بعد أن قدرت خطورة الموقف. فأخفت موت زوجها خشية تضعضع أوضاع المسلمين، وأرسلت في الوقت نفسه تدعو ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة، المعظم تورانشاه من حصن کیفا، للقدوم إلى مصر على عجل ليتولى الحكم (*33)

وقامت شجرة الدر بإدارة الشؤون العامة، في هذه الفترة الانتقالية بالاشتراك مع الوزير فخر الدين يوسف ..

وعلى الرغم من كافة الاحتياطات التي اتخذتها لإخفاء وفاة زوجها، فقد علم الصليبيون بخبر وفاته، فانتهزوها فرصة لتوجيه ضربة قاضية للمسلمين قبل أن يفيقوا من أثر الصدمة
ويستكملوا استعداداتهم ؛ فتركوا دمياط وزحفوا نحو المنصورة ، وتمكنوا من دخولها بعد اصطدامات حامية مع الجيش الإسلامي (*34)

و برز في هذه الحرب المماليك البحرية الذين أخذوا على عاتقهم إنقاذ الموقف، وقد تولى قيادتهم فارس الدين أقطاي الصالحي .

وصل، في هذه الأثناء، المعظم توران شاه إلى مصر، فأعلنت عندئذ وفاة ، الصالح أيوب، وسلمته شجرة الدر مقاليد الأمور، وأعد خطة عسكرية كفلت له النصر النهائي على الصليبيين، واضطر الصليبيون إلى التراجع تحت ضغط معركة فارسكور، فطاردهم المماليك، ووقع لويس التاسع نفسه في الأسر .(*35)

وعلى هذا الشكل، انتهت الحملة الصليبية، بفضل جهود المماليك .

🔹️ نهاية الدولة الأيوبية

يبدو أن السلطان الجديد توران شاه لم يكن رجل الساعة المطلوب، واشتهر بأنه شخصية عابثة. فقد اتصف بسوء الخلق والتصرف، والجهل بشؤون الحكم والسياسة، فبدت منه منذ وصوله من حصن کیفا أمور نفرت القلوب : إنه ازداد
غرورة بالنصر الذي حققه، وتناسي ما أبلاه مماليك أبيه من صد الصليبيين، فلم يقدر ثمن هذا النصر، كما لم يقدر جهودهم في الحفاظ على نظام الحكم كي يؤمنوا الملك له.

ويبدو أن تورانشاه فقد ثقته بهم، بعد انتصاره على الصليبيين، عندما شعر بأن له من القوة ما يكفي لأن يملأ الوظائف الحكومية بممالیکه الذين اصطحبهم معه من معه من إقليم الجزيرة، ولما احتج عليه هؤلاء رد عليهم بالتهديد والوعيد، ثم أعرض عنهم، وأبعدهم عن المناصب الكبرى، وجردهم من مظاهر السلطة وأخيرا أمر باعتقالهم.

كما تنكر لشجرة الدر التي حفظت له ملکه، فاتهمها بأنها أخفت ثروة أبيه ، وطالبها بهذا المال، وهددها، حتى داخلها منه خوف شديد (36) مما حملها على بث شكواها إلى المماليك البحرية الذين يخلصون لها باعتبارها زوجة أستاذهم” (37)

و بعد فإن تورانشاه، بالإضافة إلى ضعف شخصيته، وسلوكه السيء، قد تأثر بآراء ممالیکه الذين قدموا معه من الحصن، وقد أثاروا ضغينته على البحرية وشجرة الدر، وحثوه على التخلص منهم حتى يتفردوا بمشاركته في الحكم وإدارة شؤون الدولة (*38) .

نتيجة لهذه السياسة الحمقاء، حنق المماليك البحرية عليه، وتخوفوا من نواياه، واستقر رأيهم على قتله قبل أن يبطش بهم وساندتهم شجرة الدر التي باتت تخشى على نفسها من غدره .

وتزعم المؤامرة مجموعة من الأمراء البحرية منهم فارس الدين أقطاي وبيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وأيبك التركماني.

وتم تنفيذ المؤامرة في صباح يوم الاثنين (28 من شهر محرم عام 648 ه/ 2 أيار عام 1250م)، وكان السلطان آنذاك بفارسكور يحتفل بانتصاره ويتهيأ لاستعادة دمياط، فاقتحم بيبرس البندقداري خيمته، وتقدم نحوه وضربه بسيفه.

تلقي السلطان الضربة بيده فقطعت بعض أصابعه، ثم التجأ إلى البرج الخشبي الذي كان قد أقامه على النيل ليمضي
فيه بعض وقته ؛ حتى يحتمي به، فتعقبه بيبرس وأقطاي وغيرهما من زعماء البحرية، فأحاطوا بالبرج وأضرموا فيه النار. وفزع تورانشاه، وألقى بنفسه من البرج في النيل وقد اشتعلت النار بثيابه، وهو يصيح مستنجدا، إلا أن أحدا لم يغثه ،

ثم راح يسبح طلبا للنجاة، لكن المماليك لاحقوه بالنشاب من كل ناحية، فأخذ يتوسل إليهم ؛وقد وقف في مياه النهر ملتمسا الرحمة وعرض عليهم التنازل عن العرش والعودة إلى إقليم الجزيرة فلم يستجب أحد لندائه .

ولما لم تنجح الرماية بالسهام في قتله، وثب عليه بيبرس من الشاطئ إلى النهر وأجهز عليه بسيفه، فمات جريحا، غريقا،
محترقا، وظلت جثته في العراء مدة ثلاثة أيام بعد انتشالها من الماء دون أن يجرؤ أحد على دفنها، حتى شفع فيه رسول الخليفة العباسي، فحملت الجثة إلى الجانب الآخر من النهر ودفنت هناك (*39).

وبمتقل توران شاه ينتهي حكم الأيوبيين في مصر .
————–‐—————————————————–
نرجو من الناسخين اللاصقين عدم النسخ و تعريض صفحاتهم للسخرية أو البلاغات من طرفنا #جواهرالأدبوالتاريخ
————–‐—————————————————–
(☆1) المماليك د. السيد الباز العريني .. استاذ تاريخ العصور الوسطى جامعة القاهرة وبيروت /ط دار النهضةبيروت ١٩٦٧/ ص ٤٠-٤٦

(☆2) د. محمد سهيل طقوش : تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ط 1 دار النفائس 1997م ص 28- 34

(1) ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص ۲۱۹ – ۲۲۰ (2)ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج6 ص 348
(3)ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 233 (4)ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 428
(5)العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص 423 (6) ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 258
وانظر ؛ العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص 430
(7) انظر Grussat. Le Empair De Steppes ص. 305 (8) القلقشندي: صبح الاعشی ج 4 ص 474
ابن تغری بردی : المنهل الصافي ج 1ص 335 ؛العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص 343
(9)جروست Grousset – مرجع سابق. 279 (10) انظر ابن تغری بردی : المنهل الصافي ج 1 ص ، 136، ص 149
(11) زامباور : معجم الأنساب والأسرات الحاكمة (الترجمة العربية) ج۲ ص 356 • (12) ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 275
(13) ابن واصل : تاريخ الواصليين ص 305 أ ، ب ؛ العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص179 ؛ المقريزي : السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 ص 255 (14) ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 277
العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص 158
(15) إبن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 278 (16) إبن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 297
(17) المقريزي : السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 ص 255 ؛ العيني : عقد الجمان مجلد 53 ص 179؛ابن واصل : تاريخ الواصليين ص 305 أ ، ب (18) المقريزى : السلوك لمعرفة دول الملوك ج۱ ص270-271
العيني : عقد الجمان مجلد 3، ص 207 – 208
(19) المقريزي : السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص271 -272 (20) المقريزي : السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 ص 280
(21) المقريزي : السلوك المعرفة دول الملوك ج 1 ص 316 (22) المقريزي : السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص 326
(*23)ابن تغری بردی : النجوم الزاهرة (ق) ج 6 ص 347

؛ العيني : عقد الجمان مجلد 54 ص 258

(24) جود فري دي بوايون أول حاكم صليبي لبيت المقدس بعد أن استولى الصليبيون عليها في عام1099م. اشتهر بالتقوى، ورفض أن يتخذ لقب ملك وغرف باسم حامي القبر المقدس. (25) كان من المقرر أن تتجه الحملة الصليبية الرابعة إلى مصر في عام 1204م، إلا أنها غيرت اتجاهها نحو القسطنطينية بتحريض من البنادقة .
(26) لقد توجهت الحملة الصليبية السادسة بقيادة فريدريك الثاني، الأمبراطور الألماني، في عام (625 ه/ 1228م) إلى عكا بهدف استعادة بيت المقدس من المسلمين. (27) راجع حول هذه الأسباب: نسیم، جوزف: العدوان الصليبي على مصر، هزيمة لويس التاسع في المنصورة وفارسكور، ص 47 – 56.


(28) القاضي ابن عبد الظاهر، محيي الدين : الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، ص48- 50 ؛ النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب : ج۲۹، ص360-361. العيني : عقد الجمان في تاريخ اهل الزمان، ج1 ص26-27؛ ابن تغري بردي: ج6 ص371 – 372. (29) ابن تغري بردي: ج6، ص328.


حصن کیفا: بلدة وقلعة کبیرة مشرفة على دجلة بین آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر، الحموي، ياقوت : معجم البلدان : ج2، ص590.
(30) المقريزي: ج1، ص349. ابن تغري بردي: ج6 ص360. (31) ابن تغري بردي: ج6، ص362- 364
(32) المقريزي : السلوك، ج۱، ص۳۳۳. (33) المصدر نفسه .


(34) ابن تغري بردي: ج۱، ص۳۳۰. (35) كان الصالح ایوب قد عهد إلى عرب من كنانة بالدفاع عن دمياط .
(36) المقريزي: السلوك ج۱، ص346 (37) ابن تغري بردي: ج6، ص371.


(37) كانت علاقة المملوك بسيده أو أستاذه تسمى في المصطلح الرسمي المملوكي بالأستاذية، بينما كانت رابطة الزمالة التي تربط المملوك بزميله المملوك في الخدمة تسمى الخوشداشية، وكانت هاتان العلاقتان الأستاذية والخوشداشية من أقوى الروابط التي قامت عليها دولة المماليك.

(راجع العبادي، أحمد مختار وسالم السيد عبد العزيز : تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام، ص 294 هامش رقم 2. (39) العريني ، السيد الباز: الشرق الأدني في العصور الوسطى، الأيوبيون، ص 152.-

التعليقات مغلقة.