احمد خالد توفيق القصاصة مازالت في جيبي

كنت قد كتبت بعض الأشياء التي يجب أن أقوم بها في تلك القصاصة الصغيرة من الورق المربع التي أدسها في جيبي كل صباح . وجه القصاصة مخصص للأعمال التي يجب القيام بها , وظهرها مخصص للأفكار التي تتوالد فجأة .. طبعا كل هذا بخط لا يقرأ .. لو مر يوم فلن أقدر أنا نفسي علي قراءة حرف..

لسبب ما نسيت القصاصة علي المكتب , ولسبب ما جلست طبيبة امتياز علي المكتب فوجدتها .. لم تعرف أنها تخصني فراحت تطالع المكتوب بشيء من الفكاهة .

ـ خبز ـ الكهرباء ـ عباس أبو شفة ـ مرقة دجاج ـ تسلم المرأة !!!

هنا بدأ الرعب في عينيها وقذفت بالقصاصة .. تسلم المرأة !… من صاحب هذه الكلمات ؟ .. هذا رجل أقل ما يقال عنه إنه من الطراز الذي ( يتسلم المرأة ).. رجل لا تتمني أن تقابله في زقاق مظلم أبدا ..

طبعا لم أخبرها باسم صاحب القصاصة وتظاهرت بأنني لم ألحظ الموقف أصلا , وعندما غادرت الغرفة أمسكت بالقصاصة لأفهم أي امرأة علي أن أتسلمها … هنا وجدت أن العبارة هي ( تسلم المرآة )!.. مرآة!… هذه همزة وليست علامة تمديد .. كانت مرآة الحمام قد تهشمت وأخذت الإطار لصانع المرايا وقد كان اليوم موعد التسلم . مشكلة هذه القصاصات التي تكتبها لنفسك هي أنها لا يجب أن تقع في يد غريب .. إنها فضائح مجسدة ..

أعادني هذا إلي قضية القصاصة وهي قضية معقدة فعلا , سوف أشرحها لك لو جلست تشرب الشاي معي ..

في أحد المنتديات سألتني قارئة ذكية عن كيفية الكتابة الغزيرة التي أمارسها , مع كل هذه السلاسل المخصصة للشباب والتي تصدر في مواعيد محددة .. هل هناك إلهام يأتي حسب الطلب وفي وقت معين ؟ .. أم أن العملية تجارية تماما , وتعتمد علي أن أجلس لأكتب أي شيء كلما حان الوقت؟ .. وتساءلت في آخر تعليقها عما أسمته ( تزمين الإبداع ).. تعبير موفق بالتأكيد ..

سؤال مهم , ويدل علي أنها لا تأخذ أي شيء ببساطة .. نحن ننتظر الرواية القادمة لعلاء الأسواني أو صنع الله إبراهيم أو إبراهيم عبد المجيد .. الخ .. فنعطي الكاتب وقته ليدرس ويجمع المعلومات , ويكتب ويمزق ما كتبه , ويشرب جالونات من القهوة .. ربما ننتظر عاما أو خمسة أعوام . لا مشكلة . فليأخذ وقته ..

لكنك ستصاب بدهشة بالغة لو قيل لك إن جمال الغيطاني مثلا ملتزم برواية كل ستة أشهر .. عندها لن تبتلع الأمر تماما .. إن ستيفن كنج ـ في رأيي ـ من أغزر الكتاب العالميين إنتاجا , لدرجة أن الناشر اضطر لأن يصدر بعض أعماله باسم مستعار هو ( ريتشارد باكمان ) لأن السوق لا يتسع لكل كتابات هذا الشلال , وبرغم هذا لم يلتزم ستيفن كنج بموعد محدد لصدور أعماله ..

أوضح نموذج لظاهرة الإنتاج في مواعيد محددة هذه هي أجاثا كريستي , التي كانت ملتزمة برواية كل عام .. علي كل حال أجاثا لها خلطة تعرف أسرارها .. اللورد تاكري قتل في مكتبه ويصل بوارو ليستجوب الجميع , ثم يكتشف أن الممرضة هي القاتلة .. يمكنها أن تجري تنويعات للأبد لدرجة أن بوارو نفسه صار القاتل ذات مرة .

ديكنز كان يكتب قصصه مسلسلة للصحف .. حلقة بحلقة .. كان يلعب نفس دور المؤلف الذي يكتب حلقة من المسلسل قبل التصوير بنصف ساعة وهو يشرب الشاي الكشري في البوفيه , وذات مرة وجدوا أن المساحة المخصصة لقصة ( ديفيد كوبرفيلد ) أكبر مما قدمه لهم , من ثم جلس في المطبعة بسرعة وكتب عشرين صفحة !.. نعم .. عشرين صفحة .. لكن نتيجة هذه الكتابة حسب الطلب هي ( أوليفر تويست ) و ( ديفيد كوبرفيلد ) و ( أوقات عصيبة ) و ( توقعات عظمي ) و .. و .. لهذه الطريقة عيبها كذلك كما لاحظ سومرست موم في دراساته الروائية .. فلو كانت قصة ديكنز تحتاج فعلا إلي العشرين صفحة تلك , لكان قد كتبها منذ البداية .

هناك مثال قوي آخر هو شكسبير ذاته .. كان يكتب بالطلب وحسب مواعيد عروض مسرح (جلوب), ومن أجل أكل العيش فقط , وبرغم هذا إبداعاته تتحدث عن نفسها .. أي أن الرجل كان يكتشف أنه مفلس فيجلس ليكتب (هاملت).. ثم ينتهي المال فيجلس ليكتب (ماكبث).. وهكذا …

أعتقد أنه كون حاسة ( الموهبة وقت الحاجة لها ) التي سأتكلم عنها في هذا المقال , وبالطبع استعمالي لهذه الأسماء الكبيرة للتوضيح فقط , ولا يعني أنني أعتبر نفسي منهم ..

في البداية يكون المرء مزاجيا جدا .. يكتب عندما تنضج الأفكار في رأسه ويصير البديل عن الكتابة هو الكسرولة علي الرأس وتعاطي البروزاك .. يكتب المرء كذلك لاستمتاعه الشخصي ولنفسه فقط .. إما أن يظل كذلك للأبد ويصير أديبا من الأدباء الذين يكتبون ثلاث أو أربع روايات في حياتهم , أو يصير من كتاب السلاسل والمقالات الدورية , حيث المطبعة تعوي كجهنم طيلة الوقت طالبة المزيد..

لو صارت الأخيرة , فإنه علي الأرجح يتوصل إلي حل توافقي لابد أن جميع من يكتبون بانتظام وصلوا إليه , وهو الحل الذي يلجأ له المحترف وشبه المحترف : أن يصير إنجاز القصة خليطا من الإلهام الفني والالتزام بخطة نشر ..

لايوجد لدى أحد زر يضغط عليه لكتابة قصة , ولو كان عنده هذا الزر لما صار أديبا أصلا بل هو عامل باليومية , لهذا يقوم المرء بتجميع كم هائل من الأفكار والمعالجات والخطط التي تخطر له في لحظات الراحة الذهبية في ملف كي يستعملها عندما يحين الوقت . كما قلت هذه عملية صعبة وتحتاج لبضعة أعوام حتي يعتادها الكاتب وتصير طبيعة لديه .

لقد اقترب موعد قصة مجلة الشباب , ولابد من تقديمها قبل يوم 10 في الشهر .. ما أفعله هو أن أنقب في ملف الكمبيوتر المدعو (أفكار) بحثا عن فكرة تصلح .. هذا الملف بدوره تكون من مئات القصاصات التي أدون عليها كل شيء يخطر ببالي .. قابلت ذات مرة رجلا وجد سيارة أجرة في ساعة الذروة , فجلس جواري في التاكسي مبللا بالعرق , ينظر من النافذة في تشف ورضا عن الكون , ونشوة المختار الذي اختلف حظه عن التعساء الآخرين .. يهتف أحد المارة المنهكين بالسائق طالبا الذهاب لشارع الجلاء . وهو بعيد جدا عن مسارنا طبعا , فيقول جاري في ضيق وتهكم :
ـ جلاء إيه يا عم بس !!

فجأة صار كل من يريد الذهاب لشارع الجلاء سخيفا لحد لا يصدق .. لقد شفيت الأمم المتقدمة من داء الذهاب لشارع الجلاء منذ زمن , وأنتم مازلتم تريدون الذهاب له ؟ .. لن نتقدم أبدا . هنا أمد يدي في حذر إلي القصاصة في جيبي وأدون (الراكب ـ شارع الجلاء ـ سخف)… هذا كنز صغير وسوف أعود لأضيف هذه العبارة إلي ملف الأفكار عالما أنني سأستعملها ذات يوم … إنه شخصية جاهزة للاستعمال في قصة أو مقال .. لا أدري ..

إن الحياة حبلي بالإلهام خاصة في مصر .. النماذج الغريبة تطفو علي السطح وتثب في وجهك , ويتباين الأدباء في درجة حساسيتهم لالتقاط هذه النماذج . هناك قصة رائعة ليوسف إدريس استوحاها من مراقبة طالبة تتسلل خلف بناية الكلية وتخرج سيجارة تدخنها في نهم , وهو المشهد الذي لابد أن كثيرين رأوه فلم يفكروا في شيء سوي أن البنات فاسدات الأخلاق . ثمة شخصية رائعة لتشيكوف استوحاها من مدير مكتب بريد يعرفه , وقد حدث أن ذهب لذلك المكتب مع الأديب الكبير ( ماكسيم جوركي ), هنا لاحظ جوركي الشخصية وسأل تشيكوف : أليس هذا هو الذي استوحيت منه شخصية فلان ؟

بدأ الخجل علي تشيكوف واحمر وجهه , كأن هناك من ضبطه متلبسا بفعل فاضح !

ليس البحث دائما سهلا لأنني أنسي أحيانا معني ما كتبت من رموز , أو لا أفهم ما راق لي .. علي سبيل المثال , سأنقل لك هذه السطور من ملف الأفكار الخاص بي الذي تجاوزت صفحاته المائتي صفحة :

  • فن تحويل الهراء إلي نقاط ملموسة .. كلام هلامي يصير له رأس وذيل .. يبدو الأمر عميقا حقيقيا ..
  • رائف ولوحة فتيات أفنيون .. أتيليه القاهرة . ( طبعا لا أفهم حرفا من هذه العبارة ).
  • الحياة دائرة مفرغة من التجاهل المتبادل .. ( وماذا بعد ؟ .. ماذا أريد من هذه العبارة التي تتظاهر بالعمق ؟ .. لا أعرف ).
  • غرفة الفندق نفسها هي المسخ !
  • تعتقد أنه مادام لم يبلل فلتر السيجارة فقد قام بما يجب عليه ككائن بشري .. ( استعملتها فعلا في مقال ).
  • البريد الإلكتروني للشيطان .
  • لا يمكن أن يسمحوا بتعليقهم علي المشانق .. ( من هم ؟ .. لا أفهم )
  • حرب الكواكب .. أناكين . يا عم أنا دماغي متكلفة .. ( غالبا سخرية من التعقد الشديد لسلسلة حرب الكواكب ).
  • السائق يخالف كل قاعدة مرورية .. مقطورة.. منحني .. رغبة في تدمير الركاب حتي أيقنت أن عيالي تيتموا .. أين الرادار .. لا تتفاءل بالشر .. نحن مستهترون .. ليس الطريق سيئا .. هل التفويل يسبب الحوادث؟ … تربية مرورية دينية ( كتبت هذه الفكرة في مقال طويلا فعلا ).
  • الأذكياء الذين يصلون لنمطهم بسهولة.. الريفي الظريف.. ( لا أفهم ).
  • هذا الألم الشديد في صدري .. هل هذا هو اليوم؟؟؟
  • الفتاة والبخور ( أتمني لو فهمت المقصود ).
  • الكلب مرتاب .. يعرف شيئا ( تبدو نواة دائمة لكل قصة رعب في التاريخ ).

هكذا تتراكم الأفكار في الملف .. وعندما يقترب موعد القصة أنقب فيه عن فكرة تصلح .. فكرة خطرت لي اليوم أو منذ أعوام .. أكسوها لحما وجلدا .. هذه طريقة قريبة جدا من فكرة الإلهام ..

أما ما أصنعه بهذه الأفكار فموضوع آخر , وهناك جانب كبير من التوفيق في هذا العمل . قد تحول فكرة باهتة تافهة لعمل جيد , وقد تجد فكرة رائعة لكنك تحولها لعمل سخيف ممل .. وقد تحول فكرة سخيفة باهتة لعمل أشد سخفا وبهتانا . علي كل حال هناك علامات لا تدحض علي أن القصة جيدة .
1 ـ أنتظر موعد الكتابة الليلي في لهفة وأتمني الخلاص من المضايقات اليومية لأتفرغ لها .
2 ـ الشعور بأن القصة تكتب نفسها , أو أنني مجرد قلم في يد عملاقة ولا دور لي .
3 ـ الشعور بكراهية لشخصية أو التعلق بشخصية .

لو لم تأت علامة من هذه العلامات , أدرك أن القصة ستكون متوسطة أو أقل من المتوسط ولا حول ولا قوة إلا بالله .. عندها إما أن أمسح كل شيء وأبدأ من جديد , أو أتركها كما هي أملا أن يكون ذوق القارئ غير ذوقي , أو أن يكون أكثر تسامحا وتفهما . دعك من أن كتابة قصة سيئة تعيدك للوضع الأمثل :
أنت في القاع حيث لن تخسر شيئا ولا تخشي شيئا , ولابد أن تكون القصة القادمة أفضل ولو قليلا , بينما القصص الجيدة تضع عليك آمالا مرهقة .

إن الموضوع طويل ومعقد , لهذا أكتفي بأن أطلب منك ألا تندهش عندما أخرج ورقة مربعة صغيرة من جيبي وأدون عليها شيئا , فإذا نسيتها في مكان ما فلا تحاول قراءتها من فضلك وأعدها لي !


  • القصاصة مازالت في جيبي
    الشباب – 30 سبتمبر 2010
    #أحمدخالدتوفيق

التعليقات مغلقة.