الكبت أزمة عنيفة في كل المجتمعات، لكنها أعنف في مجتمعنا، ولا أعني بهذا الكبت الجنسي فحسب بل العجز عن التعبير عن الغضب أو القهر أو الغيظ. تأمل لو أنك انفجرت في رئيسك غاضبًا وقلت له رأيك فيه فالنتيجة هي : “انت مش عارف شغلك يا أفندي.. خصم 15 يوم ومن بكره في الشئون القانونية”.
تنفجر في أستاذك فتكون النتيجة: “مجلس تأديب وفصل..”
تنفجر في الضابط المستفز فتكون النتيجة: “انت حتطول لسانك يا روح أمك ؟ ” ثم : “وبتفتيش المتهم قمنا بتحريز قطعة بانجو يحملها بغرض الاتجار”.
تتشاجر مع زوجتك : ” انت ازاي تكلمني كده ؟ . ماما كان معاها حق لما قالت إنك إنسان سافل ..”
تتشاجر مع أي واحد في الشارع. النتيجة هي أن تصحو في المستشفى لتتشاجر من جديد مع الممرضات .
هكذا لا يوجد مكان يتحمل انفجارك على الإطلاق، وهذه مشكلة حقيقية لذا يبحث الناس عن مخرج، وهذا المخرج قد يكون غريبًا.. في كل رمضان سوف تقرأ في الصحف قصة العامل الذي ذبح زوجته وأحرقها بالكيروسين لأنه عاد للبيت قبل أذان المغرب وهي لم تنتهِ من طهي الفطور بعد. الأمر لا يتعلق بالجوع ولكن بإخراج شحنة الغضب والعنف الداخلي لأوهن سبب، خاصة أنه لم يشرب شايًا أو يدخن منذ ساعات.. لهذا يصير خلقه أضيق من سم الخياط..
بالطبع لا يرتاح الكثيرون لهذه الطريقة من تنفيس الكبت التي تنتهي بالمؤبد أو المشنقة حسب كمية العنف المكبوتة لدى القاضي وقت النطق بالحكم، لكن هناك آخرين وجدوا طرقًا أسهل مثل صديقي الذي اعتاد أن ينطلق بسيارته على الطريق السريع – ليلاً عندما ينام الرادار- بأقصى سرعة، ويخرج رأسه من النافذة وينطلق في انفجار من السباب والصراخ.. هذا شيء أفهمه..
في لندن هناك حديقة (هايد بارك) التي يمكن اعتبارها أكبر جلسة علاج جماعي في التاريخ، حيث يمكنك أن تقف على صندوق خشبي وتخطب في الناس مطالبًا بقتل الرضع أو أكل الصراصير أو سلخ (توني بلير)، ولن يمنعك أحد من الكلام .. بل إن الشرطة هناك لحمايتك.. هكذا يمكنك أن تخرج الأبخرة السوداء في صدرك من دون أن تجد يدًا ثقيلة لمخبر اسمه (بسطويسي) يقول لك في خطورة أمنية : ” تعالَ كلِّم الباشا كلمتين وارجع على طول..”
هناك مَخرَج آخر كان سائدًا منذ أعوام، وهو الكتابة على الجدران. في الخارج يتخذ هذا الشكل من إخراج الكبت شكلاً فنيًا اسمه (الجرافيتي Graffiti) وله نجوم يعرفهم الناس هناك بالاسم. في مصر نجد هذا النشاط بشكل محدود، وإن كان الأستاذ (اللباد) يحكي عن نداء (شُرم برُم) الغامض الذي ملأ جدران مصر قديمًا، وكان في الواقع صرخة مكبوتة عبثية ضد الاحتلال الإنجليزي.
لكن نشاط الكتابة على الجدران يزدهر فعلاً في دورات المياه عندنا، ولو أن عالمًا نفسيًا قام بهذه الدراسة كريهة الرائحة لفهم الكثير عن النوازع المكبوتة لدى الناس. طبعًا يتخذ شكل الكتابة هنا تحررًا جنسيًا زائدًا وشتائم ورسومًا بذيئة.. في العصر الحالي هناك أرقام موبايل واتهامات لفتيات يذكرهن الشخص بالاسم، فيشتمه واحد آخر بأقذع الألفاظ .. وهكذا . من الصعب أن تجد دعوة للثورة أو نداء سياسيًا في مكان كهذا طبعًا، لكن المقياس واحد..
اليوم ظهرت طريقة أخرى لإخراج البخار الأسود هي الإنترنت.. المدونات حل عبقري تتكلم فيه كما تريد، ولو كنت محظوظًا فلن يمسك بك (بسطويسي) . التعليقات في المنتديات والتعليقات على المقالات هي الأخرى تحتاج لدراسة نفسية مدققة. لأسباب كهذه يحجم المرء عن الكتابة في أي موقع ينشر التعليقات مباشرة من دون مراجعة ورقابة؛ لأن الأرجح أن تتلقى كمًّا من الشتائم لا يوصف.. هل لأنك سيئ إلى هذا الحد؟.. لا.. بل لأن من يردُّ عليك يحتاج إلى إخراج البخار وأنت فرصة سانحة.
في المواقع التي لا تقوم بترشيح الردود، يبرهن الشباب العربي على تحضره فعلاً.. ما دام لن يُقبض عليه وما دام لا أحد يعرف اسمه؛ فهو يطلق العنان لأفحش الشتائم التي تندرج تحت القائمة (د) في تصنيفي اللغوي:
القائمة (أ): شتائم متحضرة وراقية مثل (أنت غير مسئول – أنت عميل – أنت غير ناضج.. الخ).
القائمة (ب): شتائم قاسية لكنها قابلة للنشر مثل (مخبول – غبي.. إلخ).
القائمة (ج): شتائم قاسية جدًا يعاقب عليها القانون لكنها ما زالت قابلة للنشر، وهي على الأعم أسماء حيوانات. هذه القائمة تتضمن هواية التكفير أو الاتهام بالعمالة لكل من يختلف معك فى الرأي. مثلاً كل من يهاجم (صدام حسين) هو عميل للشيعة والرافضة، وكل من يمتدح (صدام حسين) هو داعية دكتاتورية وعلماني كذلك..
القائمة (د): شتائم في منتهى البذاءة ولا يمكن حتى التلميح لها، وغالبًا هي ذات طابع جنسي فاحش.. من الغريب أن هذه القائمة بالذات هي ما يفضل روّاد المدونات استعمالها في التعليقات على المقالات.. حالة لا توصف من الانفلات العصبي والعقلي، حتى لتشعر بأن كاتب هذه الكلمات يعوي ويقضم لسانه وهو يكتب.. ربما استطالت أذناه ومخالبه.. هذا هو البديل العصري لكتابة الشتائم على جدران دورات المياه .
هذه حالة نفسية فريدة. صاحب هذه السطور قد يكون متزنًا متدينًا هادئًا، بل هو غالبًا كذلك، ثم يخلو لشاشة الكمبيوتر حيث لا يراه أحد.. عندها يخرج كل هذا الصديد والقيح الأسود من داخله. لا أعرف إن كانت هذه طريقة علاجية مفيدة أم لا، لكني لا أرجو خيرًا من شخص يستعمل هذه الألفاظ ويكتبها وينشرها على العالم كله.
في قصة (أرض النفاق) ليوسف السباعي، كان البطل مهذبًا خجولاً ثم ابتلع مسحوق الشجاعة.. عندها أدرك الحقيقة المريرة وهي أن أخلاقه لم يكن دافعها سوى الخوف والجبن.. لم تكن لديه مُثُل من أي نوع إنما هو الخوف من القانون والناس، وهكذا فإنه بعد دقائق من ابتلاع المسحوق يقتحم بيت جارته الحسناء التي اشتهاها كثيرًا وكان يغض بصره عنها!
هذا هو ما يحدث بالضبط عندما لا يكون لك اسم على الإنترنت.. تدع الوحش بداخلك يخرج.. الوحش الذي لا يحكمه دين ولا خوف من القانون ولا ضمير ولا أي شيء..
في مقال قديم لي اتهمت معظم هؤلاء بأنهم مصابون بمرض (لا توريت La Tourette) الذي يرغم المريض به على أن يتفوه بألفاظ بذيئة ويأتي بحركات مشينة من دون أن يستطيع السيطرة على نفسه..
في سياق الردود هناك من يشبع هوايته بالعبث.. مثلاً هناك من يكتب أحرفًا لا معنى لها، وهناك من يحكي قصة لا علاقة لها بالموضوع. هناك صديق لي اعتاد أن يتدخل في سياق الردود.. مثلاً يتكلم المقال عن حريق مجلس الشورى، فيكتب تعليقًا يقول: “مستوى الأهلي في انحدار مستمر”. هكذا تنهال عليه الشتائم من الأهلاوية وينسى الجميع موضوع المقال، ويمكنني أن أتخيل كاتبه يشد شعره غيظًا..
بعض من يردون يفصحون لا شعوريًا عن نمطهم النفسي.. في أحد المنتديات الخليجية نشروا صورة لفتاة فليبينية ملأت ثلاجتها باللحم البشري؛ لأنها تحب طعمه. هنا ردّت إحدى القارئات قائلة: “الخدم ما عندهم قلب مرة!”. هكذا تكشف القارئة لك عن حقيقة مهمة، هي أن الشعب الفليبيني كله بتاريخه العريق وثقافته وأدبائه ورئيس وزرائه وبرلمانه وأطبائه ومهندسيه ليس سوى (خدم). ثم أن الفتاة الفليبينية كانت تمزّق البشر وتأكلهم ليس لأنها مجنونة بل لأنها (ما عندها قلب) ولأنها من الخدم. الخلاصة هي أن كل الفليبينيين يأكلون لحم البشر !
نعم .. تحتاج السبل التى يخرج بها الناس أبخرة الكبت السوداء إلى دراسة مدققة من عالم نفسى ، لكنى أرشح المدونات والردود على المقالات كمصدر ثرى جدًّا . وأرجو فى النهاية من الموقع أن يقوم بترشيح الردود القادمة على هذا المقال بدقة ، مكتفيًا بالردود من الدرجة (ب) و(جـ) .. بلاش (د) أرجوكم !
التعليقات مغلقة.