ذات مرة كنت جالسًا في القطار أصغي لشاب يكلم صاحبه، فلو كانت المحادثة باللغة السنسكريتية لفهمت أكثر. لا أنكر أن أكثر هذه التعبيرات يمكن فهمه من سياق الكلام وتعبيرات الوجه، لكن بعضها عسير فعلاً.
كل لغة تتطور مع الوقت، وأية مقارنة بين لغة (المنفلوطي) ولغة (صنع الله إبراهيم) تريك الفارق الهائل.. قارن بين لغة (شكسبير) ولغة (جون جريشام) مثلاً.. وحتى القواميس الإنجليزية الرصينة صارت تحوي قدراً لا بأس به من العامية وربما الشتائم. أذكر المعركة الأدبية النارية بين (العقاد) و(ميخائيل نعيمة) حول لفظة (تحمم) التي قال الأول إنه لا وجود لها في اللغة العربية، بينما أصر (ميخائيل نعيمة) على أنها لفظة مفهومة لأي شخص، فلماذا نسمح لشاعر من البادية ـ والكلام لـ (نعيمة) ـ أن يخترع لفظة لا وجود لها، مثلما اخترع (امرؤ القيس) لفظة (تتفل) لأنها تناسب القافية والوزن وأعلن أن معناها (ثعلب) من الآن فصاعداً، بينما نمنع شاعراً آخر من ابتكار لفظة مثل (تحمم)؟
حتى على مستوى المحادثة، يسهل أن تجد فارقًا شاسعًا بين لغة أفلام الماضي وأفلام اليوم .. لم يعد أحد يحيي الآخر بـ (سعيدة مبارك) أو يصف الجو بأنه (طقس في غاية البداعة).. هذه لغة تناسب الماضي الجميل حينما كان شوقي بك يذهب مع حبيبته إلى النيل ليركبا فلوكة و “تعال من فضلك خدنا”..وكان المراكبي مهذبًا يرد بصوت ملائكي: “دي ستنا و انت سيدنا” ؛ فلم يطلب سعرًا فلكيًا ولم يخرج مطواة قرن غزال ويغتصب الفتاة أمام شوقي بك.
تتنازعني هنا كراهيتي ـ التي لا حيلة لي فيها ـ لهذه اللغة الجديدة التي يدور 80% منها حول معنى الاستهتار وعدم الاكتراث وأن الأمر لا يستحق. لغة فيها تحد غريب وقدر لا بأس به من الوقاحة، فأنا ما زلت مصراً على أن لفظة (بيئة) هي لفظة (بيئة) فعلاً. وماذا عن لفظ (موزّة) التي تعني (فتاة جميلة) ؟.. هناك قدر من الوقاحة والاستهتار بالأنثى كأنها شيء يؤكل لا أكثر، والغريب أن الفتيات يقبلن هذه اللفظة باعتبارها (مجاملة رقيقة). يتنازعني هذا المقت مع إيماني بأن على جيلي ألا يفرض تحفظاته على الجيل الجديد .. لقد حورب (سيد درويش) عند ظهوره باعتباره (شاباً لا يحترم أساطين الغناء)، وحورب (عبد الحليم حافظ).. واليوم يُحارب المطربون الشباب لأنهم ليسوا (عبد الحليم حافظ).. كان آباؤنا يزغرون لنا حين نستعمل لفظ (سكّة) ـ بفتح السين ـ بمعنى (الشيء التافه)، واليوم لا يفهم الأب ما يقوله أولاده حتى يوبخهم عليه.. هذه هي القصة دائماً إلى يوم الدين. الشباب يبدو غريباً جامحاً بالنسبة للكهول، والكهول يبدون ماموثات متحجرة عاجزة عن التغير بالنسبة للشباب، و(أحمد عدوية) صار تراثاً كلاسيكياً راقياً بالنسبة إلى (شعبولا).
أعتقد أن النقلة الأولى الكبرى في لغة الشباب المصري كانت في السبعينات مع مسرحية (مدرسة المشاغبين) التي ولدت مصطلحات جديدة، بل وطريقة جديدة تماماً في المزاح. قبلها كان الناس يضحكون من أسماء مثل (السناكحلي) ومن كوميديا الموقف مولييرية الطابع ومن سلاح التكرار الذي تكلم عنه (برجسون) كثيرًا .. التكرار .. التكرار .. وحتى يصفق المشاهدون فتلتهب أكفهم. جاءت (مدرسة المشاغبين) بأسلوب خاص جدًا من الدعابة؛ ولمدة عشرين عامًا ظل طلبة المدارس يكررون دعاباتها التي لا تخلو من وقاحة واستهتار.
النقلة الثانية هي في التسعينات…
هنا يتعرض شبابنا لضغط يفوق بمراحل سُنة التغيير التي تكلمنا عنها.. الظروف القاسية التي يواجهونها، وعلامات الاستفهام التي تملأ المستقبل، ولدت فيهم تحدياً قد يتجاوز ما هو مطلوب أو صحي. إن لغتهم قد اتسعت لتحتوي عوالم الميكروباص والكمبيوتر ومترو الأنفاق والإنترنت..
المعلومات كثيرة جدًا .. الوجوه كثيرة جدًا …لا سبيل لاستيعاب هذا كله إلا بالسطحية والمزيد من السطحية .. كل شيء يجب أن يتم بسرعة وبلا تعمق .. وهذا يظهر بوضوح في اللغة قبل أي شيء آخر.
لقد تنبأ أندي وارهول – الفنان المجنون غريب الأطوار – بأنه في عام 2000 ستكون فرصة كل إنسان للشهرة ربع ساعة لا أكثر ..يمكن أن نقول إن نبوءته تحققت.. ويمكن أن نضيف إلى الشهرة أن كل معلومة .. كل رأي .. كل انفعال .. فرصته في البقاء ليختمر ربع ساعة لا أكثر..
أتذكر الموقف الطريف الذي حكاه د. (جلال أمين) عندما كان في الولايات المتحدة وضل طريقه بسيارته .. كانت هناك لافتات كثيرة جدًا تدل على كل شيء وهذه اللافتات جعلت الأمور تختلط عليه .. وهنا خطرت له فكرة غريبة: إنه كان بحاجة بالضبط إلى كم أقل من المعلومات كي يتخذ قراره !.. هذه عبارة جريئة جدًا لا يجسر على قولها إلا من هو في وزن (جلال أمين).. بالفعل كم المعلومات المتدفقة على الشاب عبر الفضائيات والإنترنت وآلاف الصحف يجعله في حيرة حقيقية .. لا وقت لتكوين رأي أو استيعاب أي شيء .. في الماضي كان هناك فيلم أجنبي واحد يعرض أسبوعيًا في برنامج نادي السينما، وكنا نرتب يومنا كله من أجل ساعة العرض هذه، ونلتهم عشاءنا أمام الشاشة .. ثم يعرض الفيلم فتستوعب كل حرف منه .. يتسرب إلى كل خلية من خلاياك .. أما اليوم فمن النادر أن تستكمل الفيلم إلى منتصفه قبل أن تقلب القناة بحثًا عن متعة أسهل..
هناك موضة جديدة أطلق عليها اسم (الروشنة الدينية) هي أغان دينية ملحنة بإيقاع عصري.. وترى الفيديو كليب في التلفزيون، فترى مجموعة من الشباب المتأنق أناقة الحراسات الخاصة يقف متخشبًا كأنه يحرس موكب (إبراهيم بيه)، وهو يردد أسماء الله الحسنى .. سرعان ما تدرك أنه لم يتسرب إلى أرواحهم مما يقولون إلا النغمات .. فقط يحركون شفاههم .. هذه أغان تم تصميمها ببراعة لسد حاجة الأفراح وذلك النشاط المصري الوليد: حفلات افتتاح المحلات الجديدة .. في مرة أخرى راقبت شابًا يرقص في ميوعة وانتشاء على أغنية شعبان عبد الرحيم فائقة الشهرة (أنا بأكره إسرائيل)، فساءلت نفسي: هل يعي أية كلمة من الكلمات التي يرقص على لحنها ؟.. هل يفهم ؟.. هل يهمه أن يكره إسرائيل أو يهيم بها حبًا؟
إنها السطحية في كل شيء ..
إن لغة (الروشنة طحن) تعبر عن هذا كله .. وسوف تجد من يرصدها بشكل أكاديمي يومًا ما، أما في المرحلة الحالية فإنني أشكر ذلك الشاب المتحمس الذي قرر جمعها في كتيب حتى لا تضيع. وذلك تحسبًا لليوم الذي يتكلم فيه أبناؤه فلا يفهم حرفًا مما يقولون. يومها تبدو عبارة مثل (كله في الأمبلايظ) عتيقة لها ذات رنين (طقس في غاية البداعة) في مسامعنا!
السابق بوست
القادم بوست
التعليقات مغلقة.