أستاذ (رأفت) مشغول جدًا.. لا تضايقوه ولا تطلبوا منه أى شىء من فضلكم
أستاذ (رأفت) لديه ابنة فى الصف الثانى الثانوى، وهى ابنة مراهقة.. وهناك جدول معقّد من الدروس الخصوصية لا بد من أن تذهب لها. تذهب وحدها؟ هل تمزح؟ الشوارع تغص بالأوغاد المراهقين الذاهبين إلى الدروس الخصوصية أو العائدين منها، أشبه بعصابات تقطع الطرق وتبقر بطون الحوامل وتغتصب النساء فى كل ركن.. لا هَم لهم سوى الشجار بالمطاوى من أجل البنت فيفى التى (حلقت) لأحدهم
ركوب سيارة أجرة؟ أنت مُصر على المزاح إذن؟ كل سائقى الأجرة يختطفون الفتيات المراهقات إلى منطقة نائية ويغتصبونهن.. هم لا يفعلون أى شىء آخر.. يبدو أنهم لا يمنحون الرخصة إلا للسائق الذى يحب اغتصاب البنات
لهذا لا بد أن ترى أستاذ (رأفت) يصحب ابنته إلى هذا الدرس أو ذاك، وهو يرمق الناس بشك وكراهية وخوف.. تريدون خطفها يا أولاد الزنى؟ جرّبوا ذلك. أحيانا يصحبها بسيارته الـ128 الخربة الموشكة على التحلل أو مشيًا على القدمين. العملية معقدة جدًا.. يجب أن يحتفظ بجدول صغير يذكره بالمواعيد والعناوين: مس (هيام) الساعة 3 عصرًا.. درس الرياضيات.. مستر (عادل) الساعة 4 عصرًا ودرس الفيزياء.. طبعًا المسافة بين البيتين تستغرق ساعتين على الأقدام وأربع ساعات بالسيارة، لكن هذه ليست مشكلة المدرسين.. هى مشكلته هو
يهرع بها إلى مركز الدروس، ويراها تدخل القبو المظلم تحت السلم. كل مدرسى الدروس الخصوصية وجدوا كالخفافيش أقبية مظلمة رطبة، وقبع كل منهم فى مكانه ينتظر ضحاياه. يشعل رأفت سيجارة ويقف على الناصية يلتقط أنفاسه.. يتجه إلى المقهى القريب ليشرب شايًا وحجر معسل إلى أن ينتهى الدرس. وتلك مشكلة أخرى.. لقد صار استهلاكه من المعسل فلكيًّا. أنت تعرف أنه سيُصاب بأول نوبة قلبية بعد عام من الآن.. أو سيُصاب بسرطان الرئة بعد خمسة أعوام. هذا لا يهم
تتقاضى مس هيام 250 جنيهًا، بينما يتقاضى مستر عادل 300 جنيه… هناك حصص إضافية.. النتيجة هى أن أستاذ (رأفت) مضطر إلى تدبير ألفى جنيه شهريًّا -إضافة إلى مصاريف البيت- من أجل الدروس.. لا يعرف كيف، لكنه يفعلها فى كل شهر كأنه لاعب أكروبات فى السيرك
تخرج ابنته من قبو الخفافيش حاملة مذكرة سميكة كتب عليها (الهيام فى الرياضيات)، مع صورة فرجار ومنقلة وقلب أحمر. هذه هى المذكرة التى ألّفتها المعلمة وتُرغم الطلاب على شرائها، وفى الوقت نفسه لا بد من شراء الكتاب الخارجى الذى تحدده بالاسم
هناك ساعات عديدة يمضيها فى المكتبة يقوم بتصوير عشرات المذكرات. هناك طوابير من الطلبة يقومون بتصوير مذكرات.. ملخصات لملخصات لملخصات
تخرج الفتاة من الدرس مرهقة تائهة. هل من سيارة أجرة؟ لا يوجد.. كل سيارات الأجرة ركبها صبية وفتيات يحمل كل منهم كتبًا ومذكرات
لو ألغت مصر التعليم لأفلس كل سائقى التاكسى خلال نصف يوم
هكذا يتواصل يوم أستاذ (رأفت) حتى المساء.. وفى النهاية يعود ليرتمى كفطيرة فى فرن فى فراشه. لم تعد لديه سعة نفسية لأى شىء وليس مستعدًا لسماع حرف من زوجته
حاول فى بداية العام أن يتصالح مع المدرسة وفشل.. الدائرة الشيطانية الشهيرة: كيف أُحضر أولادى إلى المدرسة وأنتم لا تشرحون شيئًا؟ كيف نشرح أى شىء وأطفالكم لا يأتون إلى المدرسة؟ هكذا مر أول يوم وأول أسبوع دون أن يتعلم الأولاد شيئًا، وعرف أن معلم الرسم يقوم بتدريس الفيزياء للطلاب، وأن هناك حصة واحدة فقط فى اليوم
قال له خبير تربوى إن الدروس الخصوصية مرض نفسى، وإن الآباء يعطون أولادهم دروسًا لأن من قبلهم كانوا يعطون دروسًا، وما يحدث هو خليط من التقليد الأعمى والتباهى. لكن الدروس الخصوصية تجعل الطلاب يحصلون على الدرجات النهائية فعلًا. لم يعد هناك وقت للمزاح.. فى عصر صار متوسط الدرجات فيه 98-99% فإن درجة واحدة قد تغيّر مستقبل الفتاة للأبد.. لا مجال للمخاطرة
صحيح أنه لا يفهم.. أمس كان فى المكتب ولاحظ أن الخريجين الجدد كلهم يكتبون (فتايات) و(لاكن)، وأكدت له فتاة إنها لا تحب بريطانيا لكنها تحب المملكة المتحدة، وأكد شاب أن أينشتاين هو مخترع القنبلة الذرية، وسمع شابًا يؤكد أن الديناصور هو نوع ضخم من الفيلة. عندها كان يتساءل عن تلك النتائج الباهرة فى الثانوية العامة.. من أين تأتى وما مردودها بالضبط؟
هباء!
هذه هى الكلمة التى تصف كل هذا التبديد.. تسعون فى المئة من موارد البلد ووقت أهله يتبدد على عملية التعليم التى لا طائل من ورائها.. طباعة.. تصوير.. أولاد فى الشارع طيلة الصباح والمساء.. مصاريف تنقل.. أعباء اقتصادية.. معاكسات.. مشاجرات.. مدارس دورها الوحيد تقاضى المصاريف.. كتب مدرسية تطبع ثم تلف فيها الطعمية.. مبانٍ لا نفع منها.. عبث فى عبث.. رحلة سيزيفية مستمرة لا تنقطع.. وفى النهاية: الديناصور فيل عملاق
هناك أولياء أمور لم يكتفوا.. نريد أن تسرقوا منا أكثر.. هذا النصب غير كافٍ.. أرجوكم. لهذا أوجدوا من أجلهم نظام آى جى.. اطمئنوا.. معنا سوف يتم تجريدكم من ثيابكم سوف تبيعون الثلاجة ولن تأكلوا اللحم إلا مرة كل أسبوعين
هؤلاء خبراء نفس عباقرة ويفهمون عشق المصريين للـ(قنعرة) والاختلاف. المظاهر مهمة جدًا، وقد رأيت مَن ينام على سرير إيديال مكسور، لكنه يتنقل بسيارة مرسيدس، هكذا يمكنك أن تكسب دائمًا إذا قدمت البديل الأغلى سعرًا
عندما تنهى ابنته دراستها سوف تحصل على رقم يقترب من 100% كثيرًا أو يتجاوزه.. سوف تدخل كلية من كليات القمة لتتبع بالضبط ما فعلته وهى طالبة.. سوف يصير اسم الدروس وقتها (كورسات)، لكن سيظل كل شىء كما هو
فى النهاية سوف تتخرج، ولسوف تصاب بالسكرى فتعالج نفسها بغلى ورق النبق. سوف تؤمن أن أحدًا لم يصل للقمر وناسا كانت تكذب، لكنها فى الوقت نفسه سوف تؤكد أن أرمسترونج مشى على القمر فسمع الأذان وأسلم.. سوف تجلس فى انبهار تشاهد عروض إخراج العفاريت فى التليفزيون، وسوف تشاهد قناة «المحور» لترى نصابًا يحمل قطعة كريستال عملاقة من نجفة أمه، يؤكد أنها ماسة اشتراها لحسنى مبارك من جنوب إفريقيا، ولسوف ترى قوات الشرطة العسكرية تحرس الاستوديو خوفًا من سرقة (الماسة).. سوف تصدق هذا كله وتؤمن به وتتصرف على أساسه
لا حل سوى إصلاح التعليم.. لو لم نصلح التعليم فلا جدوى ولن تغيّر حالنا ألف ثورة
هناك ألغاز كثيرة يجب أن يفهمها أستاذ رأفت وأى أب آخر، ويجب أن يفهمها أى مسؤول يريد صادقًا إصلاح هذا البلد، لكن لا وقت لدى أستاذ (رأفت) كى يفهم.. لقد حان موعد درس آخر، والمسافة طويلة ولا توجد سيارات أجرة.
مقال: الهباء.
التعليقات مغلقة.