من أجمل مقالات العراب:
أعرف أنا الصبي في الصف الثالث الابتدائي أننا في ورطة مادية معينة. لا أفهم ما هي، ولربما تتعلق بدفع أقساط شيء ما، فذكرياني عن طفولتي – كابن من أبناء الطبقة الوسطى – هي سلسلة طويلة من الأزمات المالية. كلمة (مزنوقين) كانت تُقال عدة مرات في الشهر، ولكننا كذلك لم نكن فقراء .. هناك نقود للطعام والعلاج والكساء بطريقة ما. قلتها لك: طبقة وسطى.
في ذلك اليوم الذي سأظل أذكر أنه 21 يونيو، قالت أمي لأبي إنها ذاهبة لزيارة صديقتها المريضة في المستشفى، وأخذتني معها. كان أبي غارقًا في خواطره السوداء في البيت، يفكر في طريقة الحصول على المال، لذا اكتفى بأن طلب منها أﻻ تتأخر.
كان هذا هو المغرب، وقد استقلت أمي عربة حنطور – لم تكن هناك سيارات أجرة في طنطا وقتها – وعلى صوت سوط الحوذي وحوافر الخيول مالت نحوي وهمست:
ـ”لن تذكر لأبيك شيئًا عن هذا المشوار .. لن تقول شيئًا”
لم أكن مهتمًا بشيء.. المهم أن يُسمح لي بالعودة للبيت للعب وقراءة مجلة ميكي التي لم أفتح صفحاتها الملتصقة بعد… الحنطور يقترب من منطقة السيد البدوي.. عاوز حبّ العزيز.. بعدين.. اصبر.. عاوز حُمّص.. ما تجننيش يا ولد.. اصبر..
هذه المنطقة تدعى الصاغة. متاجر الذهب متلاصقة، وفي كل متجر كهل مسن ينظر للعالم بشك، ويداعب كفة الميزان ويشرب القهوة المحوّجة ويبصق، جواره يقف شاب سمج بسوالف يلبس خاتمًا ثقيلاً ويطيل ظفر إصبعه الأصغر.. تدخل أمي وتطلب مني الجلوس، ثم تخرج من حقيبتها سوارًا ذهبيًا وسلسلة.. وتسأل عن ثمن بيع هذين. يزنهما الرجل مثل شيلوك يهودي تاجر البندقية، ويلقي رقمًا، لا يروق لأمي غالبًا فتقول شيئًا عن (ظرف مش كويس بيمر بيه البيت) وتحاول الوصول لرقم أكبر..
كنت أشعر بملل بالغ بعد كل المحلات التي مررنا بها، وفي النهاية حصلت على حفنة من المال أرضتها، فطوتها ووضعتها في الحقيبة، وابتاعت لي بعض حبّ العزيز، وعلى باب الصاغة استوقفتْ عربة حنطور أخرى وتفاوضت مع الحوذي ثم ركبنا. عادت لتهمس في أذني:
ـ”كما قلت لك .. نحن لم نفعل ما فعلناه .. كنا في المستشفى”
هكذا عرفت أن قيمتي الوحيدة هي الحماية. ما كانت سيدة لتجول في منطقة الصاغة وحيدة بعد الغروب، ولم يكن من داع لتحذيرها لي لأنني كنت قد نسيت كل شيء.. لم أعد أفكر إلا في مجلة ميكي. في البيت عندما جاء الليل سمعتها تفتح خزانة الثياب، ثم تصيح في فرح منادية أبي:
ـ”هذا المظروف فيه مال .. وجدته في جيب بدلتك القديمة .. كيف تنسى كل هذا المبلغ؟؟!”
وسمعت أبي يعد المال ويحمد الله على زوال الغُمّة. لا أحد ينسى المال بهذه السهولة، لكن أمي اقنعته أنه فعل ذلك.
ما زلت أذكر تلك الليلة، وأفكر في أن أمي خدعت زوجها. خدعته وباعت مصوغاتها من أجل فك ضائقة مالية يمر بها، فما كان ليسمح لها بذلك أبدًا لو عرف. ثمة أمهات أخريات كن سيكذبن لأغراض أخرى تمامًا.
تفاصيل .. تفاصيل .. تفاصيل .. هي ما تجعلنا نحن في النهاية.
أحمد خالد توفيق
أب وأم
22 يونيو 2016
التعليقات مغلقة.