طوال القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر الميلاديين؛ حدثت فى مصر بل والعالم حركة ثقافية واسعة – بالنسبة لما سبقها على الأقل – وزيادة كبيرة فى عمليات نسخ الكتب والوثائق وإمتلاكها، هذه النهضة كان لها أسباباً واضحة جلية فى أوروبا، لكنها كانت مجهولة الأسباب بالنسبة لمصر والمشرق عند غالبية العلماء والباحثين المحدثين،
خاصةً فى ظل رسوخ النظرة القديمة التقليدية للقرون الثلاثة التى تخللها الحكم العثمانى لمصر والمشرق وحتى مجئ الحملة الفرنسية (1517 : 1798) وهو إعتبارها عصر إضمحلال وجهل وتخلف فى قالب واحد وبتعميم كبير دون تحليل أو تمحيص أو دراسة مستفيضة.
ففى أوروبا رأى الكثير من العلماء أن إختراع آلات الطباعة وإنتشارها فى القرن السابع عشر كان سبباً مباشراً للنهضة الثقافية الكبيرة التى حدثت هناك، تزامن معها توسع كبير فى صناعة الورق ووفرته وبالتالى إنخفاض ثمنة بشكل ملحوظ، مع الأخذ فى الإعتبار النهضة التجارية الإقتصادية الكبيرة التى كانت ترتفع فى منحنى منظم فى أوروبا فى ذلك الوقت.
أما فى مصر والمشرق فلم يكن هناك طباعة بعد، فما الذى يفسر ذلك التوسع الكبير فى نسخ الكتب وقرائتها وتلك الحركة الثقافية؟ العديد من الدراسات الحديثة تناولت تلك القرون الثلاثة بالدرس والتحليل إعتماداً على الوثائق الباقية بمئات الآلاف والمخطوطات وغيرها من الشواهد الآثارية، وكانت المفاجأة أنه بالفعل كان هناك إتساع كبير فى عمليات نسخ الكتب والمخطوطات وبيعها وإقتنائها بل وإنخفاض كبير لأثمانها فى مصر، تبع ذلك حركة ثقافية كبيرة رغم عدم إستخدام الطباعة فى مصر حتى بداية القرن 19م.
منها الدراسة التى أعدتها د/نيللى حنا بعنوان “ثقافة الطبقة الوسطى فى مصر العثمانية” أثبتت فيها إعتماداً على الوثائق الباقية وجود قطاع كبير فى مصر ممن يصح تسميتهم بالطبقة الوسطى فى تلك القرون الثلاثة، على عكس النظرة التقليدية القديمة التى كانت تقسم المجتمع فى ذلك الوقت إلى طبقتين حكام مسيطرين ومحكومين فقراء جوعى وبينهما بون شاسع لا يتخلله شئ، عاشت هذة الطبقة فى مستوى إقتصادى معقول يميل إلى الرخاء فى جزء كبير من تلك القرون الثلاثة خاصةً القرن 17 والنصف الاول من القرن 18م، ثم يميل إلى الفقر مع بداية النصف الثانى منه، وإنعكس ذلك بشكل واضح على الوضع الثقافى لتلك الطائفة وللمجتمع المصرى بشكل عام، تقول د/نللى حنا:
“والواقع أن إنتقال الإهتمام بالكتب من الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى إقترن أيضاً بإتجاه مماثل فى أوروبا فى تاريخ سابق وعلى نطاق مختلف … غير أن ثمة تطورات مهمة حدثت فى بواكير العصر الحديث، أتاحت فرصة إنتشار الكتب بين أفراد الطبقة الوسطى الحضرية، ويعنى ذلك أننا بحاجة إلى تحديد الظروف التى يسرت سبيل ذلك، بعيداً عن عامل إستخدام المطبعة”
وسارت الدراسة فى عدة إتجاهات لإثبات ذلك:
أولاً الناحية الإقتصادية: فقد إقترن توسع إقتناء الكتب بالحالة الإقتصادية للمشترى؛ التى تتيح له إقتناءها وبالتالى لابد من النظر إلى متوسط دخول الطبقة الوسطى الحضرية بالنسبة للرأسمالية التجارية السائدة فى تلك الفترة وقدرتهم على إنفاق الأموال على سلعة كمالية مثل الكتب، وأن “الطلب على الكتب جاء نتيجة تمتع الطبقة الوسطى الحضرية بمستوى معيشى مريح فى فترة زمنية معينة وتحقيقها لمستوى معين من معرفة القراءة والكتابة والتعليم …”
ثانياً: هل وفرة الورق وإنخفاض ثمنه فى أوروبا والعالم كان له صدى فى مصر؟ فإنتشار صناعة الورق اللازم لسد حاجات الطباعة التى أصبحت كبيرة للغاية فى أوروبا كان له إنعكاساً حتى على البلدان التى لم تعرف فيها المطابع بعد. بل يمكن القول أنها كانت مرحلة وسيطة سبقت إدخال المطابع حدث خلالها إنتشار ملحوظ للكتب فسواء إستخدم الورق للطباعة أو للنسخ فقد كان متوفراً ورخيص الثمن فى مصر حتى النصف الأول من القرن 18م. تثبت الوثائق ذلك فأرشيف المحاكم فى الفترة العثمانية يثبت أن الورق فى صورة الوثائق المدونة كان له أهمية خاصة فى ذلك الوقت، فالمعروف أن شهادة الشهود أمام المحكمة دليل كاف لإثبات صحة الوثيقة من الجهه الشرعية،
وفى حالة حدوث خلاف بين طرفين يقدم الشهود شهادتهم بطريقة أو بأخرى، لكن فى القرن 17م حدثت تعديل فى الإجراءات، وبدأت المحاكم تستخدم الوثائق المدونة كدليل إثبات فى القضايا وهى حقيقة تقوم دليلاً على التوسع فى إستخدام الورق.
بل تثبت سجلات المحاكم أن العقود والحجج لم يكتف الموظفون بتدوينها فى سجلاتهم فحسب، بل كان يحق للأطراف المعنية الحصول على نسخ معتمدة منها كإثبات على صحة دعواهم فى حالة نشوب خلاف آخر، وعلى سبيل المثال رفعت إمرأة قبطية تدعى مريم بنت يوحنا قضية ضد زوجها السابق شحاته بن سليمان فى محكمة الباب العالى عام 1141هـ / 1728م تطالب بنفقة مستحقة منذ فترة زواجها، وحدث تناقض فى أقوال الطرفين، فقدمت المدعية للمحكمة وثيقة مستخرجة حديثاً من سجلات محكمة قوصون قرئت جهراً فى
المحكمة، فلم يقف زوجها السابق مكتوف الأيدى فقام بتقديم حجة أخرى إستخرجها من محكمة الصالح لتأييد موقفه، ويعنى ذلك أن سواء كان هؤلاء الأشخاص يعرفون القراءة أو يجهلونها فقد إحتفظوا بنسخ الوثائق النافعة لهم لحماية مصالحهم، وهذا مع وجود مئات الآلاف من تلك الوثائق الباقية لهو دليل مباشر على التوسع فى إستخدام الورق والنسخ تزامناً مع معرفة الطباعة خارج مصر بل وقبل معرفتها فى مصر.
ثالثاً هناك إتجاه آخر تثبت به آلاف الوثائق حدوث نهضة ثقافية كبيرة وتوسع فى القراءة وإقتناء الكتب فى تلك الفترة، وهى وثائق حصر التركات، فإعتماداً على بعض الدراسات الفردية لمناطق بعينها ثبت إنتشار كبير للمكتبات الخاصة فى وثائق حصر التركات فى القرنين 17 ، 18م،
أثبت كوليت ستابليه وبول باسكال إنتشار هذه الظاهرة فى تلك الفترة على نطاق واسع فى دمشق، يتفق ذلك مع النتائج التى وصل إليها برنارد هيبرجر عن وضع مشابه فى سوريا ولبنان بالنسبة للمسيحيين فى نفس القرنين، أما فى مصر فقد درست د/نيللى حنا وثائق التركات بمحكمة القسمة العسكرية والعربية فأثبتت زيادة واضحة فى عدد الأفراد الذين إمتلكوا مكتبات خاصة فى أوائل القرن 17م وحتى منتصف القرن 18م.
فتشير وثائق الفترة من 1600 : 1610م إلى وجود 73 مكتبة خاصة، زاد هذا الرقم بشكل كبير فى السنوات العشر الأولى من القرن التالى إلى 102 مكتبة، بل وصل العدد إلى 190 مكتبة فى سجلات الفترة من 1730 : 1740م، ثم فى منتصف القرن بدأت أصداء الأزمة الإقتصادية فى المجتمع فإنخفض إلى 102 مكتبة حتى سنة 1759م. ذلك كله مع الوضع فى الإعتبار أن التركات لا ينتقل أمرها إلى المحاكم أصلاً إلا فى حالات نشوب نزاع بين الورثة، وبالتالى فالأعداد السابقة توضح المكتبات الخاصة بالحالات التى حدث فيها نزاع على الميراث فقط فما بالك بحجم المكتبات الخاصة وأعداد الكتب بشكل عام.
رابعاً: هناك إتجاه آخر يمكن إستنباط منه أدلة لا تقبل الشك فيما يخص التوسع فى الإنتاج الفكرى ونسخ الكتب وبالتالى شدة الطلب على بيعها وإقتناءها، وهو متوسط أعداد نُسَخ المخطوطات الباقية فى فترة زمنية ما من خلال الإطلاع على كتالوجات المخطوطات التى دونت فى تلك الفترة والمحفوظة فى مكتبات ومتاحف العالم،
وبالرجوع إليها يتبين أنها تقدر بمئات الآلاف وتثبت أن نسخ المخطوطات العربية بالتحديد تزداد زيادة كبيرة فى القرن الثامن عشر بغض النظر عن تاريخ تأليفها، فقد فاقت أعدادها بكثير أعداد مثيلتها مما نسخ فى الفترات السابقة قى كافة التخصصات العلمية.
يكفى القول أن غالبية ما وصل إلينا من نسخ الحوليات التاريخية التى تؤرخ لعصر سلاطين المماليك قد نُسخ فى القرنين 17 ، 18م، وهى حقيقة يؤيدها مثلا فهرس المخطوطات العلمية المحفوظة بدار الكتب المصرية الذى أعده دافيد كنج، فعدد المخطوطات العلمية فى ذلك الفهرس والمنسوخة فى ذينك القرنين تفوق مجمل ما تم نسخه فى غيره من القرون،
أما المكتبة الوطنية بباريس فيشير كتالوج مخطوطاتها العربية أن النسخ التى ترجع لنفس الفترة تفوق أعدادها مجمل ما نسخ فى القرون السابقة عليها مجتمعة،
بل وحتى المخطوطات المسيحية التى نسخت فى مصر بصورة موازية، فأشار مجدى جرجس فى كتابه “أثر الأراخنة” أن المخطوطات الدينية المسيحية التى مولها أراخنة الأقباط والتى ترجع للقرن 18 فقط تبلغ حوالى نصف مجموع المخطوطات الدينية بجميع الكتالوجات القبطية.
الخلاصة: من هذا الموضوع وغيره الكثير من الأدلة، أن ترك ثلاثة قرون كاملة من تاريخ مصر مع إهمال كافة جوانبها خاصةً الإجتماعية والفكرية منها، أو الإكتفاء بوصف ثلاثة قرون كاملة بكلمات مثل التخلف والجهل والمرض دون تكليف النفس عناء البحث والدرس والقراءة والإستقصاء لهو ضرب من الجنون،
خاصةً فى ظل التقدم الكبير والتغيير الواضح الذى حدث فى النظرة العامة لهذة القرون فى الدراسات العلمية الحديثة خاصةً فى أوروبا، وأيضاً فى ظل مئات الآلاف بل ملايين الأدلة الآثارية والوثائق التى كشف الغبار عنها والتى ترجع لتلك الفترة، وهى بلا مبالغة تكفى وحدها لإعادة كتابة تاريخ تلك القرون بصورة أقرب ما تكون إلى الحقيقة بعيداً عن النظرة الإستشراقية القديمة فى زمنها؛ العقيمة فى محتواها.
التعليقات مغلقة.