درس تربوي
مع تدفق الأفلام الأميركية عبر الفضائيات، صارت الشتائم تتسلل إلى بيتك وغرفة نومك وغرفة جلوسك، لأن كتَّاب هذه الأفلام يصرون على استعمــــال ألفــــاظ فاحشة بدعوى الواقعية. ومن الغريب أن هناك إحصائيات لهذه الشتائم .. حتى اللحظة ما زال الفيلم الأميركي (خيال شعبي) هو الأعلى في استعمال لفظة بذيئة معينة، فقد استعملها 269 مرة، يليه في قائمة (الشرف) فيلم (أشخاص طيبون) حيث كان الأبطال من عصابات المافيا ولابد أن يشتموا.. هكذا استخدموا تلك اللفظة 265 مرة فقط .. هناك أفلام ابتكرت شتائم جديدة تمامًا لم يلفظها أحد قبل الفيلم مثل لفظة (فوبار) التي اخترعها فيلم (إنقاذ المجند رايان).
لقد اعتدنا هذا على كل حال برغم أن بعض القنوات بدأت تحذف هذه الألفاظ من شريط الصوت. أنا أقبله برغم أن جيل الأطفال الحالي يعتقد أن هذه الألفاظ من مفردات اللغة الإنجليزية المهمة، ويستعملونها أكثر مما يستعملون أداة التعريف The ..
تأتي المشكلة عندما اصطحبت ابنتي الصغيرة وصديقاتها إلى السينما لمشاهدة فيلم مصري كوميدي من تلك الأفلام الجديدة التي لا تعلق بذاكرتك ثانية واحدة بعد انتهائها .. أربع زهرات صغيرات في التاسعة يضحكن حتى تدمع عيونهن مع كل الصفعات والمقالب السخيفة على الشاشة، وأنا أتابع الفيلم دامع العينين من فرط إعجابي بنفسي .. أنا أب حقيقي .. أب رائع .. أب يضحي بوقته وراحته النفسية ويشاهد كل هذا الهراء كي تستمتع ابنته ..
هنا كان بطل الفيلم يمسك بشاب أجنبي ويوشك على ضربه لأنه عاكس حبيبته، لولا أن قال له الشاب بالإنجليزية: «آي آم جاي.. !» يعني (أنا شاذ )..
هنا ارتفع في ظلام السينما صوت ابنتي البريء يقول:
- بابا .. ما معنى (آي آم جاي)؟»
ساد الصمت السينما كلها وحبس كل الناس أنفاسهم انتظارًا لما سأقول . طبعًا فعلت الشيء الوحيد الممكن:
- «لم أسمع ما قال».
عاد صوتها الرقيق يسأل بصوت عال:
- قال له (آي آم جاي) فتركه .. ما هو السبب ؟»
قلت في حكمة:
- «لا أعرف .. ربما لو سمعت لفهمت ..»
من جديد عادت أحداث الفيلم تتكرر وعادت أنفاسي تدخل وتخرج في صدري، إلى أن تكرر على الشاشة نفس الموقف حرفيًا .. ومن جديد دوى صوت صديقة ابنتي:
- «عمو .. ما معنى (آي آم جاي)» ؟
- «هه؟»
- «لقد قالوها ثانية»..
فكرت لربع ثانية، ثم قلت على الفور:
- «معناها أنه مصاب بصداع .. نعم .. البطل لم يضربه لأنه مصاب بصداع»..
هنا قال واحد جالس خلفي في السينما بلهجة معلم الأجيال الذي لا يطيق أن يسمع أحدًا يهذي بما لا يعلم:
- «لا مؤاخذة يا أستاذ..(جاي) ليس معناها أنه مصاب بصداع.. بل معناها …….»
استدرت له موشكًا على لكم فمه، وقلت بغلظة:
- «بل هي كذلك .. ولتعن بشؤونك الخاصة من فضلك».
هنا قالت ابنتي بصوتها الرفيع العالي:
- «ما معناها إذن ؟.. هذا الرجل الجالس خلفنا يقول إنها لا تعني الصداع».
- «سوف أشرح لك فيما بعد .. تابعي الفيلم .. تابعن الفيلم يا بنات وإلا هشمت رؤوسكن .. لن تتأثر حبكة الفيلم أو يفسد لو عرفتن معنى كل كلمة»..
- «ولكن»…
ـ «ش ش ش ش !!.. لو سمعت كلمة أخرى لغادرت السينما..»
هكذا ظللن يشاهدن الفيلم في تعاسة شاعرات أنَّ الكلمة التي لم يفهمنها هي ذروة الفيلم وحلاوته وأجمل ما قيل فيه. أما أنا فتمنيت لو أحضرت الأخ كاتب السيناريو من عنقه لأسدد له بعض اللكمات.. ألم تقل يا أخ إن الفيلم كوميدي ومناسب للأطفال؟.. إذن لماذا تحشر فيه هذه الألفاظ؟.. سوف أحطم رأسه حتى لو قال لي (آي آم جاي) ألف مرة..
انتهى الفيلم فخرجنا.. كان رأسي ينبض كالطبل وأصاب ضوء الشارع شبكيتي بشلل تام. تحسست رأسي وقلت لابنتي:
- «صداع عنيف فعلا ً»
هنا رأيتها تفكر قليلًا .. تستعمل الضمائر كما تعلمتها في المدرسة وتحاول تكوين جملة جديدة. ثم صاحت في مرح بصوت سمعه كل الخارجين من السينما:
- «بابا .. أنت عندك صداع .. إذن .. يو آر جاي!»
وانتظرت أن أهلل انبهارًا بعبقريتها. طبعًا لن أحكي عما حدث بعد هذا لأن لك خيالًا واسعًا، لكني أقولها بوضوح: أنا لا أصلح أن أكون أبًا متفهمًا حنونًا كما كنت أعتقد في نفسي. يبدو لي أن سياسة ضرب الأطفال مفيدة وتؤتي أكلها في أحيان كثيرة.
التعليقات مغلقة.