الأندلس من الفتح إلى السقوط
.الخلافه الأمويه(عبدالرحمن الناصر)…الجزء الأول
تولى عبد الرحمن الناصر إمارة الأندلس بعد وفاة جده، فرفع من شأن الأندلس من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العزة ومن الهوان إلى المجد والسيادة، واستطاع أن يقضي على جميع الثورات الداخلية، واستطاع القضاء على الممالك النصرانية واسترداد الأراضي الإسلامية الأندلسية من تحت سيطرتها، وأعاد المجد والعز للإسلام والمسلمين.
الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنباً للثورات والانقلابات الداخلية……
نفتح سوياً صفحة جديدة في هذا التاريخ الطويل، وقبل أن ندخل في هذه الحلقة فإن بعض الإخوة اشتكوا من كثرة المعلومات في الدروس السابقة، وتلاحق الأسماء والتواريخ، فهذه دراسة لثمانمائة سنة من تاريخ الأمة الإسلامية، والحق أنك تحتاج إلى قراءة الحلقة أكثر من مرة لاستنباط الدروس، وقد لا نقف أحياناً على بعض الدروس في بعض المواقف، ويترك للأفراد الاستفادة منها بقدر حاجتهم،
فعلى سبيل المثال: صفات عبد الرحمن الداخل ؛ فلو جلست مع نفسك أياماً ما استطعت أن تكفيه حقه، ولا أن تدرس صفاته دراسة كافية وافية.
فبعض الأسئلة جاءت بخصوص الحلقات السابقة.
فمنها هذا السؤال وهو: ما زال يعتقد أن الصوائف -وهي خروج الدولة الأموية للجهاد في سبيل الله كل صيف، كانت سواء في فترة الشام أو في فترة حكمهم لبلاد الأندلس، لم تكن إلا لإخراج الشباب من البلاد إلى الثغور وذلك لإفراغ الشحنات، وبذلك يتجنبون الثورات والانقلابات والتمرد في داخل البلاد، فهل هذا حقيقي وصحيح؟
أولاً: الرد على هذا السؤال هو أنني حزنت حزناً شديداً، أن أرى هذا الفهم لفتوحات الدولة الأموية الكثيرة، بأن يقلب كل حسن إلى قبيح، وكل خير إلى شر، فلماذا الطعن في فتوحات بني أمية، وأياديهم البيضاء على المسلمين لا تنقطع؟
ماذا كان سيقع لو أن بني أمية لم يدخلوا إلى ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية جميعاً؛ أوزباكستان وكازاخستان والشيشان وأذربيجان وأفغانستان والهند.. وغيرها من البلاد التي ظلت تحكم بالإسلام قروناً طويلة بفضل هذا الدخول؟
ولماذا الطعن في الأمثلة الجميلة والصور الرائعة، كـموسى بن نصير ، والقول بأنه ما ذهب إلى بلاد الأندلس بجيشه إلا غيرة من طارق بن زياد رحمه الله؟
ولماذا الطعن في عبد الرحمن الداخل، والقول بأنه لم يذهب إلى الأندلس إلا طلباً للملك وللسيادة والسلطان؟
ولماذا تشويه هذه الصور للشباب، وهي صور قلما تتكرر في تاريخ الأمم؟
ثانياً: أن المستشرقين ومن على شاكلتهم من أبناء المسلمين يقيسون التاريخ الماضي بأفكار الحاضر، فقد رأوا في هذه الآونة أن السياسة لا تستغني عن الغش والخداع والغدر والرشوة والمؤامرة والمكيدة، والعلمانيون لا يتخيلون أبداً أن يبذل الإنسان نفسه وماله وجهده ووقته من أجل الآخرين، أو من أجل شيء غير منظور، كالجنة مثلاً، لذلك من المستحيل عليهم أن يفهموا هذه النماذج الطاهرة، التي ما تكررت إلا في التاريخ الإسلامي فقط.
ثالثاً: هناك سنة من سنن الله الثوابت، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]،
فلو كان سعي بني أمية كله في هذه الفتوح لمجرد إلهاء الشعوب عن الملك، وإلهاء الشباب عن الثورات والمؤامرات، وليس في نواياهم الجهاد والدعوة وحب الإسلام، أكان يصلحه الله؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)؛ فقد علمنا انهزام المسلمين عند الأخطاء القلبية، فقد هزم المسلمون في أحد لخطأ قلبي، قال تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]،
وهزم المسلمون في حنين لخطأ قلبي أيضاً، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، وهذا على كرامة هذا الجيش من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإذا حقق الأمويون هذا النصر الراسخ لقرون خلت، أليس هذا دليلاً على خيريتهم؟
هل اطلع هؤلاء الطاعنون على قلوبهم، فوجدوا فيها خبثاً، قال تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148].
رابعاً: ليس معنى هذا أنه لا توجد في بني أمية أخطاء أبداً، بل يجب أن نشير إلى أخطائهم، ولكن في حجمها، وقد أشرنا في الدروس السابقة إلى أخطاء ملموسة في عهد الإمارة الأموية، أدت إلى ظهور عهد الضعف في الإمارة الأموية، وستظهر أخطاء أخرى، وقد تكون جسيمة وتؤدي إلى هلكة، وإلا لاستمر بنو أمية إلى هذه الآونة،
لكن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه من أفسد يهلك، فمن عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة إلى الأخطاء ولو قلت، ونهمل الحسنات ولو تعاظمت.
موقف الشرع من الفن الغنائي …..
هذا سؤال بخصوص قصة زرياب وأثره على المجتمع الأندلسي؟
إن الفن ليس حراماً مطلقاً كما أنه ليس حلالاً مطلقاً، بل هناك شروط إن لم تتوافر في الفن أصبح حراماً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر سورة الشعراء وهو يستثني الشعر الحلال من الحرام، يقول سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226].
ثم يستثني سبحانه وتعالى فيقول: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227].
فالاستثناء ألا يتعارض العمل الأدبي شعراً كان أو غيره مع الإيمان والعمل الصالح، حتى لو وصل هذا الأدب أو هذا العلم أو هذا الشعر إلى أرقى جوائز الأدب في العالم، فإن كان يعارض الشرع والإيمان والعمل الصالح فإن الله سبحانه وتعالى سيحبطه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
أما الاستثناء الثاني: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية أيضاً: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الشعراء:227]، فلا يلهي هذا العمل الأدبي صاحبه أبداً عن ذكر الله في كل أحواله؛ لأن الأصل هو ذكر الله، والفرع هو قول الشعر أو ما شابهه من أعمال الفن الجائز.
ثم يكمل سبحانه وتعالى فيقول: وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، أي: أن يستخدم شعره وأدبه في الدفاع عن الإسلام والنفس والوطن، وتحسين الصورة للشرق والغرب، ودفع الشبهات .. وغيرها.
حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس ……
هذا سؤال أخير عن طبيعة الحكام في فترة الضعف في عهد الإمارة الأموية في الأندلس والتي استمرت من (238هـ – 300هـ)؟
الجواب: أن الأمراء الذين حكموا في هذه الفترة ثلاثة وهم: محمد بن عبد الرحمن الأوسط ، والمنذر بن محمد وعبد الله بن محمد ، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الأوسط عاقلاً رزيناً مجاهداً، خفف الأعباء المالية عن الناس واهتم بالعلماء، أما المنذر بن محمد فقد كان فارساً شجاعاً وقائداً متميزاً، ولم يحكم إلا سنتين فقط، ثم مات وهو في حصار إحدى حركات التمرد، أما عبد الله بن محمد فإنه كان متقشفاً عادلاً رحيماً محباً للناس ينظر في المظالم بنفسه.
إذاً: كان الأمراء على درجة عالية جداً من التقوى والعدل والرحمة والجهاد، ومع ذلك ضعفت الأمة، والملحوظة الغريبة أنه يسأل:
لم لم تسقط الأمة في عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تميز في معظم فترات حياته بالظلم والقسوة، ولكنها سقطت في عهد هؤلاء الذين تميزوا بالتقوى والعدل والرحمة والجهاد؟
ولتبرير هذا التباين أرى بعض الأمور، وقد يكون هناك تبريرات كثيرة جداً، لكن أكتفي باستنتاجين:
الأول: أن هؤلاء الأمراء كانوا يتصفون بضعف القيادة، وسوء الإدارة باستثناء المنذر بن محمد ، بينما تميز الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل -على الرغم من ظلمه- بحسن الإدارة وقوة الشخصية.
إذاً: القائد لا بد أن تجتمع له مع التقوى الكفاءة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع المهام على أصحابه، كان يعطي هذا قيادة الجيوش، وهذا قراءة القرآن، وهذا الأذان، وهذا إمامة الصلاة، وهكذا كان يوزع عليهم الأمور بحسب كفاءتهم وقدرتهم على العمل، مع أن الجميع من الأتقياء.
إذاً: الكفاءة مطلوبة مع التقوى.
الثاني وهو هام جداً: أن الشعب في عهد الحكم بن هشام كان قد ربي على أعلى درجات التربية، وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وفي عهد ابنه هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي شبهوه بـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فلم تسقط الإمارة في عهد الحكم بن هشام ، بل إنه قد تاب من ظلمه في آخر عامين من حياته تأثراً بشعبه الذي كان غالبه على التقوى.
بينما الشعب في عهد الضعف كان شعباً متراخياً، ربي على الدعة والخنوع والطرب والمال وحب الدنيا وكثرة الغنائم.. وما إلى ذلك، فحتى إن تولى الصالحون فإن الأمة ستسقط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث).
والخبث كثر في عهد الإمارة الأموية الثاني، حتى أصبح عموم الشعب من الخبثاء، ومن محبي الدنيا والدعة والخنوع، وهذا يبين دور تربية الشعوب على حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ…..
أما ما كانت عليه الإمارة الأموية في فترة الضعف سنة (300هـ)، فكان كما يلي:
أولاً: وجود حركات تمرد في معظم مناطق الأندلس؛ كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون الذي تنصر في سنة (286هـ).
ثانياً: الحكومة الأموية المركزية لا تملك إلا قرطبة فقط، وما حولها من القرى، وهذا يمثل تقريباً أقل من عشر مساحة الأندلس في ذلك الوقت.
ثالثاً: شمال الأندلس كانت به ثلاث ممالك نصرانية: أراجون، ونافار، وليون، وأكبرها مملكة ليون، وكانت هذه الممالك قد بدأت تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها، بل واحتلت بعض المدن الإسلامية في الشمال، مثل: مدينة سالم.
رابعاً: أن الأمير عبد الله بن محمد وهو آخر الأمراء كان قد مات في سنة ثلاثمائة من الهجرة، وابنه الأكبر محمد الذي كان مرشحاً للخلافة كان قد قتل، وخلف وراءه طفلاً عمره ثلاثة أسابيع فقط.
خامساً: الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالفاطمية ظهرت وبقوة في المغرب، فقد بدأ ظهورها في عام (296هـ) وهي تؤيد عمر بن حفصون وتدعمه بالسلاح عن طريق مضيق جبل طارق.
سادساً: روح سلبية رهيبة تستولي على الناس في كل ربوع الأندلس، أنه لا أمل في الإصلاح.
سابعاً: الأمر في بلاد العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الأحوال في بلاد الأندلس، فقد تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات كثيرة متفرقة.
في هذا الجو المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم حدث أمر غريب ولكنه متوقع، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحين للخلافة عن الحكم، لأن الحكم تركة مثقلة بالهموم، ولا يصلح فيهم أحد لهذا الأمر، فقدموا حفيد عبد الله بن محمد ، حفيد الأمير الأخير عبد الله بن محمد ، وهو ابن القتيل محمد بن عبد الله ، الذي قتل منذ اثنتين وعشرين سنة، وهذا الحفيد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت اثنين وعشرين عاماً فقط، وهو الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الناصر .
يقوم عبد الرحمن الناصر بأمر الإمارة، فإذا به يغير الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفرقة إلى وحدة، والهوان إلى مجد وسيادة وسلطان، وهي خطوات بحق لا بد أن تدرس بعناية.
فهذا الرجل لو كان في زماننا لكان في السنة الرابعة في الجامعة على أقصى تقدير، فقد كانت طاقة الشباب لديهم كبيرة جداً، وأحياناً قد يبخس الشباب نفسه، أو يبخس المجتمع، وسبحان الله! فإن الإسلام دين عجيب، وهذه الأمة أمة ولادة، فإن موسى بن نصير فتح الأندلس وهو في الخامسة والسبعين من عمره، ومع ذلك كانت له روح الشباب في هذا السن المتقدم.
أما الشاب عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فقد ضم إلى فورة الشباب حكمة الشيوخ، رحمه الله وأكثر من أمثاله.
خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح…..
كانت خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح، فهي كتما يلي:
تربية الناصر التربية الصحيحة من قبل جده عبد الله بن محمد
أولاً: يخطئ من يظن أن تاريخ عبد الرحمن الناصر رحمه الله بدأ منذ ولايته على البلاد، فقد ربي تربية جيدة لم تتكرر كثيراً في التاريخ؛ ليكون عبد الرحمن الناصر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر ، فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر ، فهل نحن نعلم أبناءنا الصلاة لسبع سنين، ونضربهم عليها لعشر؟!
فإياك أن تضرب ابنك على الصلاة لعشر وأنت لم تأمره بها لسبع.
وهل نحفظ أبناءنا القرآن؟
أم أن أبناءنا يحفظون أغاني فلان وعلان من المطربين والمطربات، الأحياء منهم والأموات؟
وهل نعلم أبناءنا السباحة، وألعاب القوى، والدفاع عن النفس، أو أنهم مشغولون بأفلام الكرتون والتلفزيون والكوتشينة؟!
وهل يريد أبناؤنا أن يكونوا مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ، وعبد الرحمن الناصر ، وعبد الرحمن الداخل ، أم أنهم يريدون أن يكونوا مثل مارادونا ومايكل جاكسون ومن على شاكلتهم؟
الحقيقة أن المسئولية ضخمة جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
وعبد الرحمن الناصر رحمه الله قتل أبوه وعمره ثلاثة أسابيع فقط، فرباه جده الأمير عبد الله بن محمد ليفعل ما لم يستطع هو أن يفعله، رباه على سعة العلم وقوة القيادة والجهاد وحسن الإدارة، والتقوى والورع، والصبر والحلم، والعزة والكرامة، والعدل مع القريب والبعيد، والانتصار للمظلوم، رباه ليكون عبد الرحمن الناصر .
ثقة الناصر بربه ثم بنفسه في الإصلاح
ثانياً أمسك : عبد الرحمن الناصر رحمه الله زمام الإمارة وعنده ثقة شديدة بالله سبحانه وتعالى، ثم بنفسه أنه يستطيع أن يغير، فهو يثق بأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ويثق في قوله سبحانه وتعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]،
ثم يثق في نفسه أنه من الممكن أن يغير، فلو كان في قلبه إحباط من التغيير، وأنه لا أمل له في الإصلاح ما استطاع أن يتحرك خطوة واحدة، فهو مع صغر سنه أخذ على عاتقه مهمة تعتبر من أثقل المهام في تاريخ الإسلام، فبهذه المؤهلات، وبهذه التربية من جده عبد الله بن محمد التربية الشاملة لكل فروع كمال الشخصية، وبهذه الثقة الشديدة بالله ثم بالنفس غير عبد الرحمن الناصر من التاريخ،
وأول شيء فعله عندما تملك الأمور في الأندلس بدأ ينظف المراكز المرموقة الموجودة في البلد من وزراء وقواد للجيش من رموز الفساد التي عمت، وبدأ ينتقي من يتصف بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم، ويعطيه المراكز القيادية في قرطبة، وهو لا يملك من كل بلاد الأندلس إلا قرطبة وما حولها من القرى،
وقرطبة كانت من أكبر بلاد الأندلس على الإطلاق؛ لأنها كانت العاصمة لسنوات طويلة، فكانت مركزاً ثقيلاً وكبيراً، لكنها لم تكن تمثل أكثر من عشر الأندلس، فبدأ يصلح في هذه المنطقة الصغيرة، ثم أعلى من شأن العلماء جداً، ورضخ لهم رضوخاً كاملاً،
وطبق الشرع الإسلامي بحذافيره على نفسه قبل أن يطبقه على شعبه، ولم يتنازل أبداً عن مسألة واحدة من مسائل الشارع الكريم، سواء في كتابه سبحانه وتعالى أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان هو أول من طبق عليهم ذلك.
لما بنى عبد الرحمن الناصر قصراً من القصور، وحضر خطبة الجمعة، وكان الخطيب المنذر بن سعيد رحمه الله أكبر علماء قرطبة في ذلك الوقت، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى على الأمير عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فأسرف المنذر بن سعيد في الكلام وأفرط في التقريع على عبد الرحمن الناصر ؛ لأنه بنى قصراً كبيراً، فقال عبد الرحمن الناصر عندما عاد إلى بيته: لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسية في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني.
وأشار عليه رجل أن يخلع المنذر بن سعيد عن خطبة الجمعة، فقال الأمير عبد الرحمن الناصر : أمثل المنذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟
هذا والله لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه سبحانه وتعالى في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، وأبقاه على مكانته، وأكثر منذر بن سعيد رحمه الله من تقريع عبد الرحمن الناصر ، وما عزله حتى مات.
فكان عبد الرحمن الناصر يربي أهل قرطبة على هذه المعاني، وكان في انصياعه للحق أفضل قدوة للناس جميعاً.
استعداد الناصر وتخطيطه للقضاء على ابن حفصون المرتد
ثالثاً: فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يبدأ أولاً بالقضاء على ثورة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون ؛ لأن عمر بن حفصون ارتد عن الإسلام فأصبح قتاله فرضاً على المسلمين، فهذا الرجل لا يختلف عليه اثنان في أنه يستحق القتل؛ لأنه ارتد عن دين الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن المعركة في منتهى الوضوح، فهي معركة بين المسلمين والمرتدين، فاستطاع أن يحفز أهل قرطبة الذين قد ألفوا الثورات لقتال المرتدين، فقاد حملة بعد شهرين فقط من توليه الإمارة، واسترد مدينة إستجة التي كانت من أحصن مدن الأندلس، ثم قاد حملة كبيرة جداً بنفسه على صمويل بن حفصون ، استمرت ثلاثة شهور كاملة: شهر شعبان، ورمضان، وشوال في سنة (300) من الهجرة، أي: في نفس العام الذي تولى فيه عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فاسترد جيان، وهي من المدن الحصينة جداً، واسترد فيها سبعين حصناً من حصون عمر بن حفصون ،
ثم ما زالت قوة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون كبيرة جداً، حيث يأتيه المدد من ممالك النصارى في الشمال، ومن الدولة الفاطمية في الجنوب، ومن إشبيلية؛ لأن حاكمها من أولاد حجاج ، وهو حاكم مسلم، لكنه متمرد على سلطة قرطبة، ومعه جيش إشبيلية المسلم وهو جيش كبير، فأراد عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقطع عليه المدد القادم من هذه الأماكن الثلاثة، ولكن بمن يبدأ؟
هل يبدأ بالنصارى أو بالدولة الفاطمية أو بإشبيلية؟!
فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله في أن يهجم على إشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ لأن عبد الرحمن الناصر رحمه الله له نزعة إسلامية واضحة جداً، والتأثير الإسلامي للدعوة الإسلامية على القلوب كبير، فهو يؤمل أن يرغم حاكمها على الانضمام أو الانصياع له بالقوة، وأن ينضم إليه جيش إشبيلية المسلم، فبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية في هذه الفترة، وهذا ما فعله بالفعل، فذهب إلى إشبيلية سنة (301هـ) أي: بعد أقل من سنة من ولايته، واستطاع بفضل الله سبحانه تعالى وكرمه ومنه وجوده على المسلمين أن يضم إشبيلية،
فقويت شوكته جداً رحمه الله، ثم عاد إلى عمر بن حفصون بعد ذلك وقد قطع المدد الغربي عنه والذي كان يأتيه من إشبيلية، فاسترد منه جبال رندة، ثم شذونة، ثم قرمونة، وهذه جميعاً من مدن الجنوب، ثم تعمق في الجنوب أكثر حتى وصل إلى مضيق جبل طارق؛ فاستولى عليه، وبذلك قطع المساعدات الفاطمية التي تقدم عن طريق جبل طارق، والمساعدات التي تأتي من الدول النصرانية؛ إذ إنها تأتي من الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم تدخل على عمر بن حفصون ، وبذلك قطع الإمداد على عمر بن حفصون من جميع النواحي.
ونتيجة لهذه الأمور فإن صمويل بن حفصون طلب من عبد الرحمن الناصر رحمه الله المعاهدة وصلح الأمان على أن يعطيه (162) حصناً، فوافق عبد الرحمن الناصر رحمه الله؛ لأن البلاد عنده متقلبة شديدة التقلب، وهو يريد أن يتفرغ لغيره، فلما أمن جانبه وضمن في يده (162) حصناً كاملة وافقه على المعاهدة، فعند وقت الحرب كان يحارب وعند وقت المعاهدة تجده رحمه الله من أفضل الساسة.
التعليقات مغلقة.