أعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد القرآن الكريم هي ائتلاف قلوب العرب واجتماعهم عليه، ومَن له اطلاع على طبائع عرب الجزيرة وما حولها في هذه الأثناء يرى أنهم كانوا قوما في غاية النفور والجُموح والشموس والتأبّي على كل من يريدهم على غير ما يحبون، فضلا عن أن يُحقّر أديانهم ويُسفّه عقائدهم.
هذا إلى ما عُرف عن تلك البيئة من الجُمود على التقليد، ومن العصبية الشديدة لأدنى عادة، ومن الحَمِيّة والكَلفِ بالفتكِ والاحتراب إذا ما خُولِف لديهم أحقَرُ عرف، لدرجة أن القبائل كانت تتناحر وتشتعل المعارك بينها السنين الطويلة في لطمة أحدهم لآخر من غير قبيلته، أو في تقدُّم جَوَادٍ على آخر في سباقٍ ولعِب، ثم تحوّل الحال بعد إيمانهم، حتى كان الواحد منهم يترك قومه وعشيرته في الله ورسوله، بل كان يقتل أباه وأخاه فيهما، والناظر في أخبار الأوس والخزرج قبل الإسلام يرى ذلك جليا، فقد كثرت الأيام بينهم حتى كاد يُفني بعضهم بعضا، ثم انصاعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتآخوا وتحابّوا وكانوا له على أحسن ما يحب ويرضى، ولهذا كان ذلك الائتلاف من أعظم ما امتنَّ الله تعالى به على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:” وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقتَ ما في الأرض جميعا ما ألَّفتَ بين قلوبهم، ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم” والآية تفيد أنه كان أمرا عظيما جليلا لا يُنال إلا بالعناية الإلهية والمدد الربّاني المرافق للنبوة والمريد لها تمام التأييد وكمال النصرة وكل الظهور.
📕: الدر النثير
التعليقات مغلقة.